صبري رابحي يكتب: حمّى الانقلابات وإعدام الديمقراطية

profile
  • clock 22 أغسطس 2023, 5:16:54 م
  • تم نسخ عنوان المقال إلى الحافظة
Slide 01

كان هتلر يعتقد أن الدعاية السياسية أو البروباغاندا بإمكانها أن تحمي الرايخ المنبني على القومية وميثولوجيا التفوق على الآخرين، فرسم لنفسه حدوداً اعتبارية لعرشه ما بين المدّ الشيوعي والمدّ الرأسمالي اللذين حاصرا تفوقه العسكري وجعلا تسويته بالأرض أمراً مفروغاً منه بمجرد إقناعه بأنه لا يهزم عسكرياً وعرقياً فانتهى إلى كائن محاصر بتبدد وهم القوة الصلبة التي لم تستطع الصمود أمام الواقعية السياسية التي فرضتها الأقطاب الكبرى آنذاك.
بمعنى أن سياسة الهروب إلى الأمام وتبني وهم السيطرة يجر صاحبه إلى إخفاقات كبرى لا يمكنه تجاوزها إلا بتحسس الوضع الاجتماعي والفهم الصحيح والواقعي للمتغيرات الداخلية والخارجية البلد.
من هذا المنطلق أخفقت جل الزعامات العربية التي كانت منتشية بجماهير المصفقين ولم تستوعب الدرس من التاريخ، ولم تمكن المعارضة من دورها الأساسي كقوة جذب وتوازن أو تعديل في تجربة البناء المستدام، وتحولت إلى أهواء فردية بدون بوصلة أو في أقصى الحالات إلى دوغمائية فردانية للزعيم الأوحد المتكفل بالتخطيط والتنفيذ بأي ثمن.
كان الهدف دائماً هو إفراغ المعارضات من محتواها وتحويلها إلى معارضات سرية أو متحررة تخدم النظام من حيث لا تعلم بشرعنة ممارساته والاكتفاء بالوجود في العلن.
لا يخفي الواقع السياسي اليوم في العالم إعادة تشكل الأنظمة على قاعدة التسلّح والتكتلات الاقتصادية، مما يجعلها إما تابعة لهيمنة القوى الكبرى من حيث الموارد أو سوقاً منتعشة للأسلحة تخلق أعداء وهميين للتغطية على فشلها في التوحيد والنهضة مما خلق بيئة مستقرة للإصلاحيين الذين يحبذون التعامل مع النظام على مناوئته بالأساليب المشروعة للمعارضة.
مرّت الإنسانية بحروب أهلية جعلت من التفاوت الاقتصادي واقعًا مفروغًا منه وأفسحت المجال إلى إعادة تشكل الخرائط الجغرافية بين أقاليم واسعة تستفيد من التوتر وأخرى تداوم على عرقلة تقدمها في كل مرّة من خلال صناعة عدوّ وهمي تضيع الزمن السياسي المستحقّ للبناء في محاربته وتوليد العنف من وسط الخلافات الداخلية أو حتى الخارجية.
لماذا كل هذا السعي إلى حروب وهمية؟ لا يمكن لأي نظام سياسي فشل في تأسيس منوال تنموي متين أن يغطي عجزه ويتحمل مسؤوليته بالتخلي عن السلطة أو الاستنجاد بالتفكير الجماعي معارضة وموالاة لاقتسام أعباء الحكم. لذلك يصبح الحل الأسهل هو صناعة عدوّ وهمي سواء لمعارضته الفكرية أو حتى المسلحة والتي يدفع ضريبتها أتباع الطرفين دون الانتباه إلى أن الخاسر الأكبر هو الوطن.
لذلك نجد دائماً العقل السياسي قاصراً على توليد الفكرة وتنفيذ المشاريع المستدامة لقناعته بأن الحكم دائم وأن التخلي ليس وارداً خاصة إذا ما داوم على سرديتي الاستقرار السياسي المقنّع والولاء الدائم للقوى الكبرى التي يأتمر بأمرتها للحفاظ على الحكم.

سياسة الهروب إلى الأمام وتبني وهم السيطرة يجر صاحبه إلى إخفاقات كبرى لا يمكنه تجاوزها إلا بتحسس الوضع الاجتماعي والفهم الصحيح والواقعي للمتغيرات الداخلية والخارجية البلد

أصبحنا نسمع كثيراً عن الانقلابات بعد أن صرنا نؤمن بتجذّر الممارسة الديمقراطية التي أظهرت التجربة أنها أقلّ كلفة على الدول. لكن قيادات هذه الانقلابات المبنية على القوى الصلبة تؤسس بالضرورة إلى غياب الرؤية الاقتصادية وتنبني فقط على إعادة تشكيل النظام أو ترميمه على قاعدة التوازنات العائلية أو القبلية أو حتى على قاعدة توازنات القوى داخل القوى الصلبة نفسها وهو ما كشفته التجربة السودانية مؤخراً.
أما عن عنف السلطة فإن الإجراءات الموالية للانقلابات تنبني على قواعد الاستثناء الأمني والعسكري من حيث تمكين القوات المسلحة من الأخذ بزمام المبادرة السياسية التي تنشغل بالضرورة في مرحلة أولى بالترويج الديبلوماسي للانقلاب لاكتساب الشرعية الدولية ثم الانطلاق في التمكين السياسي وتنظيم الانتخابات التي تبني بالضرورة الديمقراطية المعطوبة التي يكون هدفها بالضرورة «تمدين» سلطة الانقلاب ودحر الصفة العسكرية عنها أو الترويج لكسرها للديكتاتورية في حالة الانقلابات الدستورية التي عادة ما تحمل في طياتها مغالطة كبرى مبنية على المزاج المواطني المتقلب بين الحرية وسدّ حاجياته الغذائية لتتحول الديمقراطية إلى مطلب نخبوي يدخل في خانة الرفاهية وهو ما رأيناه في دول الربيع العربي.
جلّ الخطابات الانقلابية تنبني على إعادة تشكيل المدّ الإمبريالي حيث فشلت أغلب السرديات المغتصبة للسلطة في التحوّل إلى حركات تحرّر تنفصل عن القوى الاستعمارية الكلاسيكية.
الدليل على ذلك ما حصل مؤخراً في بوركينا فاسو والتقارب بينها وبين روسيا كقطب عسكري ومن ورائه المجموعة الاقتصادية «البريكس» التي وجدت طريقها إلى العمق الإفريقي الذي مازال أرضية خصبة للانتفاع بموارده وفتح أسواق جديدة للتجارة العالمية والتسليح.
لكن التجربة أثبتت أن الدعم السياسي للانقلابات يتحوّل سريعاً من شرعنته دوليًا إلى الهيمنة عليه وتوجيهه بما يخدم القوى الكبرى لا غير وأن التحرّر الحقيقي يبقى رهين القدرة على صناعة هويّة منفردة تفرض نفسها وتتخلص من التبعية الاستعمارية وتشاكس النظام العالمي الذين لن يسمح بظهور زعامات جديدة، سواء تلك المبنية على القومية أو على العمق الاستراتيجي لبعض الدول لتلعب أدوارًا أكبر من حجمها في عالم اختار أقطابه مبكرًا، وانتقى بيادقه بعناية متناهية ويداوم على اكسائها بالديمقراطية للتغطية عن أطماعه المتزايدة في زيادة النفوذ وبسط الهيمنة بواسطة لاعبين جدد اختاروا استنساخ تجربة هتلر مع فارق طفيف في التاريخ والمصير أحيانًا.


هام : هذا المقال يعبر فقط عن رأي الكاتب ولا يعبر عن رأي فريق التحرير
كلمات دليلية
التعليقات (0)