عمرو حمزاوي يكتب: إسرائيل وإيران… ماذا تريدان من الشرق الأوسط؟

profile
  • clock 22 أغسطس 2023, 5:10:43 م
  • تم نسخ عنوان المقال إلى الحافظة
Slide 01

كان قبول مبدأ حل الدولتين والعمل على التسوية السلمية للقضية الفلسطينية من بين أهداف السياسة الإسرائيلية تجاه الشرق الأوسط بين تسعينيات القرن العشرين وبين انتفاضات الربيع العربي في 2011. بل إن النخب الحزبية في إسرائيل التي تبادلت تشكيل الائتلافات الحكومية يمينا ويسارا أو النخب المؤسسية التي أدارت أجهزة الدولة، كانت تنظر استراتيجيا إلى تسوية القضية الفلسطينية على أنها المدخل الوحيد للانفتاح على الدول العربية والتطبيع معها والانتقال من علاقات محدودة مع البعض إلى دمج إقليمي واسع لإسرائيل في الشرق الأوسط.
كانت هذه هي النظرة الاستراتيجية التي دفعت إسرائيل إلى المشاركة في مفاوضات السلام الإقليمي التي دعت إليها في بداية التسعينيات الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد السوفييتي السابق ودعمتها القوى الأوروبية والصين ورعتها الأمم المتحدة، وأسفرت آنذاك عن مؤتمر مدريد للسلام (1991) الذي جمع العرب وإسرائيل وجها لوجه. كانت هذه أيضا هي النظرة الاستراتيجية التي حفزت إسرائيل على بدء مفاوضات ثنائية للسلام مع الأردن (أسفرت عن اتفاقية وادي عربة أو معاهدة السلام الأردنية الإسرائيلية في 1994) ومع سوريا (لم تسفر عن معاهدة سلام ثنائية) ومع فلسطين ممثلة في منظمة التحرير (أسفرت عن اتفاقية أوسلو وتوابعها العديدة). كانت هذه، من جهة ثالثة، هي النظرة الاستراتيجية التي تجاوب معها العالم العربي حين أعلن في 2002 مبادرة السلام العربية التي هدفت إلى الربط بين إقامة الدولة الفلسطينية المستقلة وانسحاب إسرائيل من هضبة الجولان السورية وبين اعتراف العرب بالدولة العبرية والتطبيع معها.
جرت مياه كثيرة في وديان الشرق الأوسط بين تسعينيات القرن العشرين وبين 2011 وحملت لإسرائيل حصيلة متناقضة. كان أهم ما حققت تل أبيب في خانات نجاح سياستها الخارجية هو استقرار معاهدات السلام الثنائية بينها وبين مصر من جهة والأردن من جهة أخرى. تطورت أيضا العلاقات الاقتصادية والتجارية مع بعض الدول العربية كقطر والمغرب. أما في باب الإخفاق، فالأخطر كان غياب التسوية السلمية للقضية الفلسطينية وتواصل التدخلات العسكرية والأمنية الإسرائيلية في القدس والضفة الغربية وغزة والتورط في حروب حدودية مع وكيل إيران في لبنان، حزب الله. ورتب تعثر حل الدولتين ونزوع النخب الإسرائيلية الحزبية والمؤسسية إلى استخدام الآلة العسكرية بعنف تجاه الفلسطينيين، وكذلك تجاه لبنان، شكوكا متصاعدة لدى العرب بشأن مدى جدية تل أبيب في تحقيق السلام وتعالت الأصوات الناقدة للمفاوضات والمباحثات معها وارتفعت حتى 2011 الأسهم الإقليمية لما سمي آنذاك محور الممانعة الذي تصدرته عربيا سوريا وحركة حماس وحزب الله. كما توترت علاقات تل أبيب الجيدة تاريخيا مع أنقرة التي دوما ما كانت حريصة على التعاون الأمني والسياسي معها. كذلك لم تنجح السياسة الإسرائيلية منذ تسعينيات القرن العشرين في احتواء إيران إن بتجميد مشروعها النووي أو بالحد من مساحات الفعل الإقليمي للجمهورية الإسلامية. بل حدث العكس، فتسارع المشروع النووي لآيات الله واتسعت مساحات فعلها من لبنان وسوريا إلى قطاع غزة عبر صلات قوية مع حركة حماس وفصائل فلسطينية أخرى وإلى العراق بعد الغزو الأمريكي في 2003.
ولم يكن يقل خطورة عن إخفاق السياسة الإسرائيلية في تحقيق السلام الإقليمي والاندماج مع المحيط العربي واحتواء إيران ما حدث داخل المجتمع الإسرائيلي ذاته من انتقال من تفضيل السلام مع الفلسطينيين وعموم العرب إلى رفضه والقبول الفعلي لتحول بلدهم إلى دولة للفصل العنصري تمارس الاضطهاد ضد الشعب الفلسطيني إن داخل حدودها المعترف دوليا بها أو في الأراضي المحتلة منذ 1967 (القدس الشرقية والضفة وغزة). ولا شك أن متوالية التدخلات العسكرية العنيفة من قبل إسرائيل والأعمال الإرهابية من قبل بعض الفصائل الفلسطينية والضحايا من المدنيين الذين توالى سقوطهم هنا وهناك، لا شك في كونها أسهمت في انسحاب أغلبية الإسرائيليين من تأييد السلام مثلما انسحبت الأغلبيات العربية قبلها.

إن النخب الحزبية في إسرائيل التي تبادلت تشكيل الائتلافات الحكومية يمينا ويسارا أو النخب المؤسسية التي أدارت أجهزة الدولة، كانت تنظر استراتيجيا إلى تسوية القضية الفلسطينية على أنها المدخل الوحيد للانفتاح على الدول العربية

كان ذلك هو مشهد السياسة الخارجية لإسرائيل تجاه الشرق الأوسط في 2011 وتفاصيل تداعياته الإيجابية والسلبية كما نظر إليها من داخل الدولة العبرية. ومع التقلبات الدراماتيكية والعديدة التي تعرضت لها منطقتنا، تحركت النخب الإسرائيلية في اتجاه إسقاط حل الدولتين والتسوية السلمية للقضية الفلسطينية كهدفين استراتيجيين. توقفت المفاوضات بين الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة وبين السلطة الفلسطينية، واقتصرت العلاقات مع الفصائل الفلسطينية في غزة على المواجهات والعمليات العسكرية تارة وعلى اتفاقيات وقف إطلاق النار والهدنة تارة أخرى. في المقابل، تزايد النشاط الاستيطاني في القدس والضفة خلال السنوات الماضية واستمر حصار غزة اقتصاديا وتجاريا. اليوم، ووفقا لاستطلاعات الرأي العام، لا توجد أغلبية مؤيدة للسلام مع الفلسطينيين داخل إسرائيل وتحصل أحزاب اليمين واليسار والأحزاب الدينية على مقاعدها في البرلمان إما بالرفض الصريح لحل الدولتين أو بالتركيز على ضرورة الإدارة البوليسية لما تسميه لمناطق الفلسطينيين.
غير أن السنوات الماضية قدمت لإسرائيل مساحات للنفاذ إلى الشرق الأوسط وتطوير دورها على الرغم من تعثر التسوية السلمية مع الفلسطينيين. كان تمدد النفوذ الإيراني والتهديدات النابعة منه من محفزات التقارب بين إسرائيل من جهة وبين الإمارات والبحرين من جهة أخرى. كان تراجع الدور الأمريكي وتردد واشنطن فيما خص تعهداتها الأمنية تجاه الخليج وحلفائها بين العرب من محفزات انفتاح بعض الدول العربية على التعاون الأمني والسياسي مع إسرائيل. فوقعت الإمارات والبحرين وبعدهما المغرب الاتفاقيات الإبراهيمية مع إسرائيل في 2020 و2021.
كانت التقلبات الكثيرة والأزمات الاقتصادية والاجتماعية والأمنية العديدة في الشرق الأوسط من محفزات تصاعد الدمج الإقليمي لإسرائيل ومشاركتها في سياقات تعاون مختلفة مع العرب وبتأييد من القوى الكبرى وبعيدا عن الالتفات الجاد لممارسات الفصل العنصري في فلسطين. نعم، لم تزل الدبلوماسية المصرية والسعودية والأردنية على مواقفها الثابتة فيما خص أولوية حل الدولتين وإقامة الدولة الفلسطينية. بل، ولم تزل بعض الدول العربية على موقفها الرابط بين إبعاد المشروع النووي الإيراني عن العسكرة وبين نزع أسلحة الدمار الشامل من الشرق الأوسط بما يتضمنه ذلك من معالجة مسألة السلاح النووي الإسرائيلي، إلا أن قطار التعاون الإقليمي مع إسرائيل، والذي تركض تركيا للحاق به، انطلق ولن يتوقف لمشروطية ترتبط بالدولة الفلسطينية المستقلة أو بوقف الاستيطان وتفتيت الأراضي الفلسطينية أو بنزع أسلحة الدمار الشامل. فاحتواء إيران والتعامل مع تراجع أوراق الولايات المتحدة الأمريكية لهما الأولوية الاستراتيجية في شرق أوسط اليوم.
هذا عن إسرائيل، أما إيران فلها مصالح لا تقل خطرا على أمن العرب وسلام محيطهم الإقليمي. خلال العقود الماضية، تمكن حكام إيران من كسر الحصار الإقليمي والعالمي الذي طوقهم بعد الثورة الإسلامية في 1979، وخرجوا غير مهزومين من الحرب العراقية-الإيرانية في ثمانينيات القرن العشرين، ونجحوا في وضع أكثر من موطئ قدم في الجوار العربي من لبنان وسوريا وفلسطين إلى العراق واليمن وحولوا وجودهم في الإقليم إلى جبهة مهددة للأمن الجماعي للعرب ومتصارعة مع الولايات المتحدة وأوروبا وإسرائيل.
فعل حكام إيران ذلك متبعين سياستين رئيسيتين. من جهة أولى، عملت طهران على تمويل وتسليح الميليشيات كحزب الله في لبنان والميليشيات الشيعية في العراق وجماعة الحوثي في اليمن ودفعهم إلى التورط العسكري والعنيف في ساحات الصراع في بلدانهم وفي الإقليم على النحو الذي تدخل به حزب الله اللبناني وبعض الميليشيات العراقية في الأوضاع السورية منذ 2011. من جهة ثانية، سعت جمهورية آيات الله والملالي في طهران إلى توظيف انهيار مؤسسات الدولة الوطنية في العراق في أعقاب الغزو الأمريكي وفي سوريا واليمن في أعقاب انتفاضات الربيع العربي بغية تعميق انقسامات لبنان الطائفية لكي يصير وجودها في الجوار العربي أشبه بالهيمنة الاستعمارية.
ثم خلال العقود الماضية، شرعت إيران في توظيف هيمنتها على مقدرات بعض البلدان العربية وحالة الوهن العربي لمساومة الولايات المتحدة وأوروبا وإسرائيل فيما خص ملفات مثل برنامجها النووي والعقوبات الدولية المفروضة عليها والتعاطي مع تهديدات واشنطن بين الحين والآخر وتهديدات تل أبيب المتكررة بشن عمليات عسكرية ضدها، ولمساومة الدول العربية المؤثرة إقليميا كالسعودية ومصر والإمارات إما لانتزاع تنازلات تجاه المصالح الإيرانية في الشرق الأوسط أو لإبعادهم عن التحالف والتنسيق مع واشنطن وتل أبيب (في الخطاب الرسمي الإيراني الشيطان الأكبر والكيان الصهيوني). بل أن حكام إيران لم يترددوا في التعاون مع الإرهابيين المنتمين لجماعات التطرف والجهاد السنية مثل تنظيم القاعدة وأتباعه في سبيل تعميق الصراعات والانقسامات في الجوار العربي والقضاء على مؤسسات الدولة الوطنية في لبنان وسوريا والعراق واليمن وإغراق الشرق الأوسط في توظيف لا ينتهي للسلاح والعنف. لم يتردد آيات الله في التعاون من الإرهابيين السنة على الرغم من أن هؤلاء يكفرون الشيعة ويهاجمونهم في كل مكان ويسقطون منهم ضحايا مدنيين من لبنان مرورا بالعراق إلى باكستان وأفغانستان.
والمعنى الوحيد لهذه الحقيقة هو أن السياسة الإيرانية، وإن وظفت الهوية المذهبية (الشيعية) لمد نفوذها في الجوار العربي وادعت أن طهران هي القوة الوحيدة الحامية للشيعة في بلاد العرب والمسلمين والمناصرة لحقوقهم، إنما تقوم بذلك وفقا لحسابات المصالح الوطنية الإيرانية والمصالح السياسية وتوازنات القوة وللأوضاع الداخلية في بعض البلدان العربية التي صنعت خلافات متراكمة وشكوك متبادلة بين المواطنين السنة والشيعة وجد بها حكام إيران ضالتهم للنفاذ للجوار العربي وتهديد أمنه وتفتيت دوله والوصول إلى الهيمنة شبه الاستعمارية التي أشرت إليها أعلاه. تربط الجمهورية الإسلامية فيما خص سياستها تجاه الشرق الأوسط بين مصالحها الوطنية وتوظيفها للهوية المذهبية (مشفوعة بالتاريخ الطويل للصراع بين إيران والعرب) وبين رغبتها الجامحة في مناصبة الولايات المتحدة الأمريكية وإسرائيل وبدرجات أقل بعض الدول الأوروبية العداء واستخدام المنطقة كساحة لتهديد المصالح الغربية والإسرائيلية.
بكل تأكيد، تبحث طهران خلال العقود الماضية عن هيمنة ونفوذ ومواطئ قدم في الجوار العربي لكي تبعد عنها شبح عودة الحصار الإقليمي والعالمي. بل وتسعى اليوم إلى التوصل إلى مصالحات وتسويات إقليمية مع السعودية ومصر وغيرهما من الدول العربية لكي تتفرغ لمواجهة التهديدات الأمريكية والإسرائيلية. فإيران تتحرك شرق أوسطيا وبوصلتها الاستراتيجية ترى العداء مع واشنطن وتل أبيب وبعض العواصم الأوروبية كأولوية أساسية إلى الحد الذي صار معه أعداء الغرب وإسرائيل أصدقاء لطهران وحلفاء يستحقون الدعم والمناصرة حتى وإن كانوا من المنتمين لجماعات وتنظيمات الإرهاب السني التي تسيل دماء الشيعة (وغير الشيعة) في كل مكان. يستغل حكام إيران أوضاع لبنان وسوريا والعراق واليمن في مفاوضاتهم مع الولايات المتحدة وأوروبا بشأن برنامجهم النووي، وفيما خص إدارة علاقاتهم مع الدول العربية، وفيما خص الاعتراف بها كقوة إقليمية في الشرق الأوسط.


 


هام : هذا المقال يعبر فقط عن رأي الكاتب ولا يعبر عن رأي فريق التحرير
كلمات دليلية
التعليقات (0)