عبد الحليم قنديل يكتب: أرواح الغرب الشريرة!

profile
  • clock 5 أغسطس 2023, 7:15:49 م
  • تم نسخ عنوان المقال إلى الحافظة
Slide 01

أيا ما كان مصير انقلاب النيجر الأخير، فلن تختلف القصة كثيرا، ليس فقط في بؤس افريقيا المشهود، الذي تبدو نقوش وشومه غائرة في الجسد المثخن، بل أيضا في بؤس نهايات هيمنة الغرب بشقيه الأمريكي والأوروبي، الذي احتل افريقيا واستذلها وخربها واستنزف مواردها الطبيعية طويلا، ونقل جزءا معتبرا من سكانها كعبيد عبر المحيط الأطلنطي، ثم تكفل باعتصار الباقين، ومسخ ميراثهم الثقافي الذاتي، وحولهم إلى ببغاوات ناطقة بالفرنسية أو بالإنكليزية، أو بالبرتغالية أو بغيرها، ويكفي فقط أن تلقي نظرة على دول المنظمة الاقتصادية لغرب افريقيا «إيكواس»، التي هددت باستخدام القوة لإعادة رئيس النيجر المعزول محمد بازوم. تشكلت «إيكواس» منذ عام 1976، وبلغ عدد دولها في ذروة تضخمها 15 دولة، بينها ثماني دول ناطقة رسميا باللغة الفرنسية، وخمس دول ناطقة بالإنكليزية، واثنتان ناطقتان بالبرتغالية، ثم لا يستبقون من افريقيتهم، سوى لون البشرة السوداء، إضافة لفولكلور غربي عن الديمقراطية والحوكمة والشفافية وأخواتها، لم تقم حكما رشيدا ولا تنمية مطردة ولا استقلالا للقرارات.

لا ديمقراطية حقيقية تكتسب مع دوام المذلة وبقاء الأوطان رهينة، ولا أمن يستقر مع تكاثر القواعد العسكرية الأجنبية، حتى لو كانت المبررات مكافحة «الإرهاب»

والقصة المقبضة معروفة للكافة، فلم تبق من دولة في غرب أوروبا، لم تأخذ نصيبها من لحم افريقيا ومواردها، وكل ذلك تحت عنوان «رسالة الرجل الأبيض»، ودور الأوروبيين «الإنساني» في دفع الافريقيين درجات على سلم التحضر، حتى إن الرئيس الفرنسي الأسبق نيكولا ساركوزي قالها بغير خجل، قبل سنوات قليلة، قال إن «الإنسان الافريقي لم يدخل بعد إلى التاريخ»، ومع أن العنصرية فاقعة في كلماته الفواحة بالروائح النتنة، إلا أنها ـ مع ذلك ـ تعري دعاوى العنصرية الاستعمارية القديمة المتجددة، التي زعمت نشر التحضر باحتلالها لعشرين بلدا افريقيا، وصورت باريس كعاصمة للنور، بينما هي عاصمة الجماجم، فقد قتلت ملايين الافارقة العرب وغيرهم، ثم أقامت متحفا للجماجم، يضاف إلى متاحف وحدائق حيوانات بشرية، أقامتها فرنسا «الحرة» للافارقة العراة في مدنها طويلا، وكسبت مئات الملايين من دخل تذاكر الزوار، ثم مسخت هوية الافارقة بالحديد والنار، واعتبرت شمال وغرب القارة «افريقيا فرنسية»، وعملت على تحويل الجزائر إلى قطعة من فرنسا، عبر 130 سنة احتلال، لم يوضع لها حد نهائي، إلا عبر كفاح دامٍ خاضه الجزائريون بأجيال توالت، زاد فيها عدد شهداء الجزائر على المليون ونصف المليون، وهكذا فعلت فرنسا «الأم الرؤوم» بكل افريقيا الشمالية والغربية، إضافة لنزح متصل لموارد افريقيا وثرواتها البكر الهائلة، وإضافة «فوائض قيمة» رهيبة لحياة ونعيم أهلها، تماما كما فعلت بريطانيا وبلجيكا والبرتغال وإسبانيا وإيطاليا والآخرون، وإن تنوعت السير، وكل ذلك من دون أن يرف لهم جفن «حضاري»، ولا أن يوقفوا معزوفات التحضر الكاذب، وقد ورثتها عنهم أمريكا بعد صعودها العالمي عقب الحرب الكونية الثانية، وأضافت إليها وجها ضاحكا واستعمارا جديدا خبيثا، يحقق أهداف النزح والنهب ذاتها، ومن دون التورط غالبا في احتلال عسكري مباشر، بل بالتلاعب وتوظيف النخب المتخلفة عن عهود الاستعمار الأوروبي، وتدبير الانقلابات العسكرية، حيث تفيد واشنطن، أو التظاهر بنشر الديمقراطية في أحوال أخرى، ولم يكن السلوك الغربي الوحشي المنافق مقصورا على افريقيا وحدها، وإن نالت منه القارة البائسة أفدح العواقب، ففرنسا التي أجرت تجاربها النووية الأولى في صحراء الجزائر، وتعتمد اليوم على «المفاعلات النووية» في توليد 65% من طاقتها الكهربائية، تأخذ «اليورانيوم» الأجود والأرخص من مناجم النيجر، وتضئ به مدنها وقراها، بينما تترك النيجر غارقة في الظلام، وتحدثك مع ذلك عن نعمة الديمقراطية في النيجر، وعن التصميم على دحر الانقلاب، وتعلق الجرس في رقبة «القط الروسي» الذي يزاحمها بأعلامه، ويطردها من أراضي «عبيدها» السابقين في مالي وبوركينا فاسو، واليوم في النيجر، التي صارت ببركة المعونات الأمريكية والأوروبية سابع أفقر دول العالم، ثم يحرسون الفقر والهوان، بإقامة خمس قواعد أمريكية وفرنسية وألمانية في النيجر وحدها.
ولأن الغرب عاش واغتنى ونهب بالزيف والتزييف المتصل، فإنه لا يدرك، ولا يعترف بفداحة جرائمه وسحقه لمليارات الناس في افريقيا وغيرها، ويعتبر كل تذمر من سطوته تمردا على سلطانه الأعظم، الذي ظل مسيطرا منذ سقوط غرناطة واكتشاف الأمريكتين سنة 1492، وتوسعت السيادة للغرب وحده على مدى قرون، بقيادة الغرب الأوروبي غالبا، وإلى أن انتقلت قيادة الغرب إلى واشنطن منذ أواسط أربعينيات القرن العشرين، كان عالم المستعمرات الأوروبية السابقة ينهض، وانتصرت حركات التحرير مستفيدة من الإنهاك الأوروبي، وبدأ عصر كامل من «تحدى الغرب»، كانت «حرب السويس» 1956 أبرز محطاته، لكن هزيمة نزعة التحرر والتنمية في العالم العربي وافريقيا، والانقلاب عليها بالتواطؤ مع الأمريكيين، أخرجت غالب الأفارقة والعرب من مجرى التحول التاريخي، الذي كان قد قفز إلى مستوى جديد نهاية سبعينيات القرن العشرين، وكان نهوض الصين الجبارة، وقد كانت سابقا من مستعمرات الغرب، هذا النهوض الصيني مع تجارب أخرى من حوله، أو في أمريكا اللاتينية، دخل بتاريخ العالم إلى مرحلة جديدة، تجاوزت معنى «تحدي الغرب» إلى معنى «تجاوز الغرب»، وامتلاك قوته المادية والتقنية ذاتها، ثم التفوق عليه، وعبر عملية إعادة توزيع كبرى لموازين الاقتصاد والسلاح والتكنولوجيا، وبالذات مع عودة روسيا من غربتها التاريخية بعد انهيارات موسكو الشيوعية السابقة، وكل ذلك وغيره، خلق ويخلق مشهدا جديدا بالجملة، بدت ملامحه ساطعة مع «حرب أوكرانيا»، وبالذات في التطلع لتحطيم هيمنة الغرب التاريخية طويلة المدى، والتحول إلى عالم متعدد الأقطاب، كانت تأثيراته المبكرة تغزو عقل وقلب افريقيا الغائبة عن التحولات الكبرى، فعبر العشرين سنة الأخيرة، تحولت الصين إلى أكبر شريك تجارى مع الدول الافريقية بعامة، وبلغ حجم تجارتها السنوية مع افريقيا ـ عام 2022 ـ ما يزيد على 282 مليار دولار، تتفوق بثلاثة أضعاف على حجم تجارة واشنطن مع القارة ذاتها، وبلغت صادرات افريقيا للصين ما يزيد على 117 مليار دولار، فيما زاد حجم استثمارات الصين الافريقية على 170 مليار دولار، ولم يكن في ذلك عجب، فالصين هي أكبر شريك تجاري لأمريكا نفسها، وفوائض الميزان التجاري لصالحها، كما هي الحال مع أوروبا وجنوب شرق آسيا والهند وروسيا وأمريكا اللاتينية والعالم العربي، والصين هي مصنع العالم الأكبر، ونصيبها في التجارة العالمية أكثر من 35%، وجماعة «بريكس» التي تقودها الصين وروسيا، صارت أكبر تكتل اقتصادي في العالم، ويفوق نصيب دولها الخمس في الناتج العالمي نصيب ما يسمى «الدول الصناعية السبع» الكبرى، إضافة لمنافسات التكنولوجيا والسلاح والرعب الذري، وكان طبيعيا، أن يسمع صوت العالم الجديد حتى في أدغال افريقيا، وأن يكتسي غضب الافارقة من الظلم التاريخي بلون جديد، فالبازغون الجدد، ليس لهم أي ميراث استعماري في افريقيا، ولا دور في تجارة العبيد، ولا يملون على الافارقة شروطا لكسب التحضر، ولا يتدخلون في شؤونهم السياسية، وهو ما شجع على اكتساب واستطراد نزعة أفريقية جديدة، تريد طرد أرواح الغرب الشريرة من حياتها، والانتقام من تبجح وعنصرية الاستغلال والسيطرة الغربية، ومن فرنسا بالذات صاحبة أبشع ميراث احتلالي في القارة السوداء، وهو ما لا يريد الغرب المستعلي العنجهي المتأله، أن يعترف بحقيقته، ولا أن يسلم بتغير جوهري يجري في أوساط النخب الافريقية والأجيال الجديدة، التي لم تعد راغبة في شراء أوهام الغرب وأساطيره المزيفة، وتريد أن تسترد أوطانها، وما تبقى من مواردها الغنية، وأن تخرج من دوامات الفقر والهوان، ومن دون اكتفاء بطلاء الواجهات الديمقراطية الكذوب، فلا ديمقراطية حقيقية تكتسب مع دوام المذلة وبقاء الأوطان رهينة، ولا أمن يستقر مع تكاثر القواعد العسكرية الأجنبية، حتى لو كانت المبررات التي تساق لإقامتها، من نوع مكافحة «الإرهاب»، الذي خلقه ويغذيه الغرب نفسه، ثم يتخذه سببا لإدامة سيطرته على قرارات السياسة والاقتصاد، وهذا الشعور الافريقي الجديد، هو الذي لا يجعل لدعاوى الغرب من سبيل سالك إلى القلوب والعقول، ويجعل أعداء الغرب وخصومه في عداد الأصدقاء للافارقة تلقائيا، وأيا ما كانت وجوههم، حتى لو كانوا من جماعة «فاغنر» الروسية، التي يتوسع اليوم حضورها في وسط افريقيا ومالي وبوركينا فاسو وغيرها، وربما في النيجر عن قريب، فالغرب تحترق أعلامه وتداس صوره في افريقيا اليوم، وإلى حد صار معه الغرب عنوانا قرينا لبؤس الأفارقة المستديم.


هام : هذا المقال يعبر فقط عن رأي الكاتب ولا يعبر عن رأي فريق التحرير
التعليقات (0)