مالك التريكي يكتب: أوبنهايمر أو «هاملت» القرية الغافل أهلها

profile
  • clock 5 أغسطس 2023, 7:12:56 م
  • تم نسخ عنوان المقال إلى الحافظة
Slide 01

عندما أقلع الطيار الأمريكي العقيد بول تيبّتس في فجر 6 أغسطس 1945 كانت لديه قائمة بأربع مدن يابانية ترك له قرار استهداف إحداها. إلا أن الأرصاد الجوية هي التي اتخذت القرار: فقد كانت السماء فوق هيروشيما منقشعة والرؤية واضحة. ولولا ذلك لكانت مدينة أخرى هي ضحية أول قنبلة ذرية في تاريخ البشرية. لذلك يدرج المراسل العسكري أريك دورشميد هذه الواقعة ضمن قائمة طويلة من أحداث التاريخ العسكري التي حسمتها مصادفات طبيعية أو أخطاء بشرية، أي مفاجآت بحتة. وليس معروفا إن كان تيبتس وزميله الذي قصف ناغازاكي يوم 9 أغسطس قد شعرا بالندم على تقتيل أكثر من مائتي ألف نسمة في بضع لحظات (دونما موجب عسكري؛ فقد كانت الحرب شبه منتهية) ولكن الثابت أن عالم الفيزياء الأمريكي روبرت أوبنهايمر، الذي أدار «مشروع مانهاتن» ثم أشرف على إنتاج القنبلة الذرية في مختبر لوس ألاموس بولاية نيومكسيكو، قد ظل يؤرقه شعور بعظم الذنب. كان عالما صاحب مبادئ إنسانية وتساؤلات ميتافيزيقية، وقد أتى القصف المجاني لناغازاكي (حيث لم يكن لقصفها من ضرورة عسكرية على الإطلاق) ليفاقم حيرته وحسرته. لهذا طلب لقاء الرئيس هاري ترومان. ولكن ما أن عبر عن ندمه وباح بأنه يشعر أن يديه ملطختان بالدماء، حتى طرده ترومان من مكتبه!
ومن مزايا فيلم «أوبنهايمر» الذي يعرض حاليا في قاعات السينما في أمريكا وأوروبا، أن المخرج كريستوفر نولن نجح في تصوير بعض من مظاهر عذاب الضمير الذي لازم أوبنهايمر حتى مماته وأنه أطلع الجمهور الواسع على الملابسات العسكرية والسياسية التي حفت بإنتاج السلاح النووي والقضايا الأخلاقية التي لا يزال يطرحها على الإنسانية، خصوصا أن روسيا ما تنفك تهدد باللجوء إلى هذا السلاح، حيث كان من آخر تصريحات ديمتري مدفيديف أنه طلب من العالم أن يتضرع من أجل انتصار روسيا، وإلا فهي الحرب النووية الماحقة!

ومن الغايات التي حددها نولن لفيلمه أن يقوّي وعي الجمهور بخطر السلاح النووي وقدرته التدميرية الهائلة، ولكن من النقاد من يرى أنه لم ينجح في مسعاه. ذلك أن الفيلم لا يخرج المشاهد من منطقة الغفلة والأمان، بل هو يبقيه غافلا لأنه يبث فيه الانطباع بأن الكارثة النووية لم تقع أصلا (ناسبا الفضل، ضمنا، لعقلانية السلطة السياسية) ولذلك فإنها لن تقع أبدا!
ونظرا إلى أن الفيلم الأمريكي يلاقي الآن رواجا جماهيريا، فإن من الإنصاف التذكير بأن البي بي سي كانت سباقة منذ سنوات بعيدة إلى إنتاج فيلم وثائقي ممتاز عن أوبنهايمر تناولت فيه كل القضايا السياسية والأخلاقية المتعلقة بأسلحة الدمار من خلال تصوير سيرة أوبنهايمر وما قاساه في فترة الحملة الماكارثية من مضايقات بلغت حد المحاكمة بتهمة العمل ضد المصلحة القومية وحتى باحتمال العمالة للاتحاد السوفييتي. أما المجلّي في هذا الشأن حقا فهو الصحافي الألماني روبرت يونغ الذي نشر عام 1956 كتابا بعنوان «أسطع من ألف شمس: تاريخ شخصي لعلماء الذرّة» ركز فيه لأول مرة، لا على أبحاث العلماء وإنجازاتهم فحسب، بل وعلى سيرهم وشخصياتهم ومبادئهم. واهتم يونغ اهتماما بالغا بصراع علماء الذرة مع ضمائرهم المعذبة عقب هيروشيما وناغازاكي. ومما ذكر أن أحد قراء كتابه أرسل له قائلا: لو أن شكسبير ابتدع شخصية هاملت في عصرنا هذا، فإنه ما كان ليجعله أميرا، بل عالما نوويا!
ويروي الصحافي الراحل جان دانيال أن النخب الغربية استقبلت نبأ قصف هيروشيما بانبهار وفرحة لامسؤولة وفخر لا حياء فيه، باعتبار أن الحلفاء سبقوا النازيين إلى سلاح استثنائي كان العدوّان يتسابقان إلى امتلاكه. ولم يخرج على هذا الإجماع إلا مثقف واحد هو ألبير كامو، حيث قرع في افتتاحيته في جريدة «كومبا» يوم 8 أغسطس 1945، ناقوس الخطر وندد بانزلاق البشرية، بعد بضع مئات السنين من اختراع الصينيين للبارود، إلى استخدام سلاح آخر ملغز محيّر قادر في ظرف ثوان على تدمير جزء صغير من العالم، أي قادر في المستقبل القريب على تدمير العالم كله. كتب في المستهلّ: «ها أننا قد نبّئنا، في خضمّ من التعليقات المبتهجة، أن أي مدينة متوسطة الحجم يمكن أن تمحق كليا بقنبلة في حجم كرة قدم». ثم ختم: «فلنوجز في جملة: لقد وصلت الحضارة الميكانيكية إلى أقصى حدودها الهمجية».


هام : هذا المقال يعبر فقط عن رأي الكاتب ولا يعبر عن رأي فريق التحرير
التعليقات (0)