عبد النور تومي يكتب: ما بين غواصة تيتان وغرق قارب المهاجرين باليونان.. كيف أظهر الغرب نفاقه وأكاذيبه عن الإنسانية؟

profile
  • clock 24 يونيو 2023, 4:02:25 م
  • تم نسخ عنوان المقال إلى الحافظة
Slide 01

إن الحديث عن المحيط والبحر في زمن الحداثة والابتكارات العلمية والتكنولوجية، بات من طبيعة الأحداث التي يسمعها المرء، وهي أن لكل من المحيط والبحر أسراراً، كما للمرء أسرار. وأن تحت البحر ناراً وتحت النار بحراً، وهو ما لا يمكن لعقل المرء أن يستوعبه، وبالتالي كشفت الدراسات في علم المحيطات عن وجود النار فعلاً في قاع المحيطات، ووجود بحر تحت هذه النار.

 عن ابن عمر -رضي الله عنهما- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال : "لا يركب البحر إلا حاج أو معتمر أو غازٍ في سبيل الله، فإن تحت البحر ناراً وتحت النار بحراً". فقد أثبتت أجهزة التصوير العلمية لأعماق المحيطات والبحار أن في قاع البحر العميق ناراً ملتهبة، وهناك ماء يخرج من النار التي تخرج من القاع، وهذه حقيقة مبهرة لم يعرفها العلماء إلا في نهاية خمسينيات القرن الماضي. 

 هذا ما يجرّنا للحديث عن البحر المتوسط، الذي كما وصفه الأكاديمي والمؤرخ الفرنسي فرنان بروديل، أنه ليس مجرد بحر. حينئذ نجد المهتم بهذا الفضاء المائي وأمواجه الهائجة وشواطئه الهادئة ومياهه الدافئة تجعل المتابع للشأن المتوسطي يركّز على الانشغالات النفسية والاجتماعية والاقتصادية لأبناء الضفة الجنوبية لهذا البحر، والذي هو فعلاً ليس مجرد بحر. أصبح هذا البحر باب غزو المستحيل لآلاف من المغامرين والمتعطشين لكشف ما يدور من وراء الضفة الشمالية لهذا البحر، الذى تحوّل إلى مقبرة مائية في غياب الضمير وتغليب ازدواجية المعايير في تبسيط المفهوم الإنساني.

بحر عريق ومحيط عميق

ومن أهم ما يُعرف عن هذا البحر وحضارته المتنوعة من مارسيليا إلى قرطاج ومن الإسكندرية إلى الجزر اليونانية، في وقت عرف البحر بفضاء للتعارف والنجاة بين الشعوب. حيث كشفت التقارير الصحفية عن الكارثة الإنسانية قبل غرق القارب المصري، المبحر من مياه مصر عبر ليبيا وصولاً لإيطاليا، وعن كيفية تعاطي خفر السواحل اليونانية مع تلك الفاجعة الإنسانية الذي خلّف ما لا يقل عن 550 شخصاً في عداد المفقودين. 

الأمر الذي حرّك مشاعر الساسة في فرنسا من تيار اليسار، خصوصاً نائب الدائرة الانتخابية 18 بباريس، آيمريك شارون Aymeric Caron من حزب فرنسا الأبية LFI وأيضاً حتى الرئيس الأمريكي السابق باراك أوباما، الذي هو الآخر ربط قصة حادثة القارب المصري في مياه البحر المتوسط بحادثة غواصة تيتان، وهي الغواصة التى تديرها Ocean Gate في المياه الدولية في المحيط الأطلسي في ساحل نيوفاوند لاند، كندا. كانت الغواصة في رحلة استكشافية سياحية لمشاهدة حطام سفينة تيتانيك، وعلى متنها 5 أشخاص. 

غواصة تيتان

غواصة تيتان

 أُجريت العديد من عمليات البحث والإنقاذ من فريق دولي بقيادة خفر سواحل الو.م.أ والبحرية الأمريكية وخفر السواحل الكندي كما ساعدت في البحث طائرات من سلاح الجو الملكي الكندي والحرس الوطني الجوي للولايات المتحدة، وسفينة تابعة للبحرية الكندية الملكية، والعديد من السفن التجارية والبحثية ومركبات تعمل عن بعد.وبعد بحث استمر قرابة 80 ساعة اكتشفت مركبة تعمل تحت الماء عن بُعد (ROV) حطام أجزاء من الغواصة في قاع البحر، وتم اكتشاف حدوث انفجار داخلي للغواصة في يوم الرحلة بعد فترة وجيزة من بدء هبوط غواصة تيتان، مما أدى إلى الموت الفوري لجميع ركابها. 

تم تجنيد أمهر بحاري الدول الكبرى أعضاء في حلف الناتو NATO من أجل نجاة 5 أثرياء مغامرين، دفعتهم غريزة الفضول إلى البحث عن أسرار السفينة البريطانية العابرة للمحيط الأطلسي التى غرقت منذ أكثر من قرن في أعماق المحيط. 

بالمقابل أكثر من 500 شخص على قارب صيد مصري هزيل، أبحروا فيه للبحث عن لقمة العيش الكريم وحياة أفضل، ليس فضولاً ولا نزوة، بل بحثاً عن سر ما يدور من وراء شواطئ إيطاليا؛ كان مصيرهم الغرق في بحر عريق ابتلعهم — هذا البحر الذي ابتلع آمال وأحلام آلاف المغامرين من المهاجرين غير الشرعيين الذين أصبحوا يشكلون هاجساً أمنياً للدول المستقبلة، ومعضلة سياسية وإجتماعية للدول العابرة، ورقماً صعباً في معادلة أسباب فشل حكومات الدول المصدرة لهذه الظاهرة الاجتماعية والأمنية في إتباع سياسة عامة ناجعة للحد من الهجرة غير الشرعية. 

إشكالية الصراع من أجل الوجود 

تبقى مسألة صراع الوجود لهؤلاء المغامرين نتيجة غلق أبواب الأمل وآفاق النجاح في بلدانهم الأم من جهة، ونفاق الإعلام والنخب والسياسيين في البلدان المستقبلة في الضفة الشمالية، مما دفع بالحديث عن إنسانية انتقائية أي عنصرية.

 ممّا جعل المتابع لموضوع الهجرة غير الشرعية من إعلاميين وباحثين في الشأن الإنساني والقانون الدولي الإنساني يتسألون عن ماذا حدث في السواحل اليونانية؟ في تعاطي السلطات اليونانية مع المبحرين على قارب اليأس الذين ابتلعهم سمك البحر المتوسط في ظل جو سياسي داخلي يسوده الاحتقان وخطاب الكراهية واللامبالاة الإعلامية تجاه الرجل الشرقي في دول الاستقبال على غرار فرنسا وإيطاليا. 

نشرت صحيفة The Times البريطانية تقريراً حول مأساة قارب البؤساء وكشف التقرير الذي أعدته مراسلة الصحيفة، لوس كالاهان، كواليس ما قبل غرق القارب، وكيف أهمل خفر السواحل اليونانية مناشدات المنكوبين الذين كان لديهم الحق هم أيضاً في تقديم الحماية والرعاية من قبل السلطات اليونانية من جهة، وسلطات حماية الحدود الأوروبية FRONTEX التابعة للاتحاد الأوروبي. 

بعد هذه الفاجعة الإنسانية التى ذهب ضحيتها مئات المغامرين من أجل لقمة الخبز على عكس 5 مغامرين أثرياء، متحدين لعنة أمواج المحيط، زاد الجدل حدة بين موضوع الغنى والفقر لدى بعض النخب البوهامية في الإعلام الغربي الـ"محايد" محملين المسؤولية لعالم أصبح بدون إنسانية، ويعيش تحت معايير دمّرت قيم الإنسان. 

فتسعى الآن دول ضفتي البحر الأبيض المتوسط لوضع حد لقضية الهجرة غير الشرعية وموضوع اللجوء في ظل موجات الهجرة غير الشرعية الوافدين من مصر والسودان وليبيا وتونس، مبحرين تجاه شواطئ إيطاليا على الجهة الشرقية، والمغرب والجزائر وموريتانيا تجاه شواطئ إسبانيا غرباً. آلاف المهاجرين من دول شمال إفريقيا والساحل الأفريقي ومنهم على سبيل المثال التونسيين، بعد ثورة الياسمين عام 2011 التى كانت بمثابة بريق أمل للشباب التونسي والعربي عموما، نفس الشعور كان لدى الجزائريين أيام الحراك السلمي لعام 2019 كأن "هدنة" بين المغامرين من الشباب الجزائري والبحر أبرمت في شهور الأمل والتفاؤل. 

اليوم أصبح لا يرى هذا المغامر أفقاً في وطنه، ولا حلاً لمشاكله المادية اليومية. لم يبق أمامه سوى خوض غمار تجربة الهجرة والغوص في عمق المجهول، تبدو بالنسبة إليه الحل الأفضل لانفراج أزمته الاجتماعية والاقتصادية والنفسية، والوجودية، بالمقابل لا يمكن مواجهة مشكلة الهجرة غير الشرعية من زاوية أمنية فقط، بل عليه أن تسعى الدول المعنية (الدول التي ينطلق منها المهاجرين غير الشرعيين ودول العبور ودول الاستقبال) على حد سواء وعلى دول الاتحاد الأوروبي أن تنظر لمعضلة الهجرة غير الشرعية من بابه الإنساني أي بتقديم الحماية طبقاً لمعاهدة جنيف لعام 1951 أوّلاً، ثم الحديث عن تقديم المساعدات مالية التى عرضها الاتحاد الأوروبي على تونس في إطار مكافحة الهجرة غير الشرعية أيضاً، اقترح الاتحاد الأوروبي تعزيز الشراكة مع تونس من خلال برنامج يشمل مساعدة مالية بقيمة تتخطى مليار يورو.. تشير أرقام المعهد الوطني للإحصاء بتونس، التابع للحكومة التونسية عام 2021، إلى وجود نحو 21 ألف مهاجر من إفريقيا جنوب الصحراء فقط في تونس، بمن فيهم اللاجئون وطالبو اللجوء والطلبة.

هاجس التهديد الأمني

حيث تريد رئيسة الوزراء الإيطالية جورجيا ميلوني، التي يعد بلدها نقطة وصول رئيسية للمهاجرين الذين يعبرون البحر المتوسط من تونس، من صندوق النقد الدولي تخفيف شروط القرض. وقالت في زيارتها الأخيرة لتونس إن الاتحاد الأوروبي وتونس وقّعا بالفعل إعلاناً مشتركاً أشادت به باعتباره خطوة مهمة نحو إقامة شراكة حقيقية. وقالت إن هناك "فرصة مهمة" لوضع اللمسات الأخيرة على اتفاقية المساعدات أمام المجلس الأوروبي بنهاية يونيو/حزيران مع زيادة المهاجرين غير الشرعيين في تونس، تبدو أرقام الحاصلين على اللجوء أقل بكثير من أعداد المهاجرين.

وتقول المفوضية العليا لشؤون اللاجئين بتونس، إن هناك أكثر من 9 آلاف لاجئ وطالب لجوء من المسجلين لديها، مبينة أن معظمهم ينحدر من منطقة الشرق الأوسط وجنوب الصحراء والقرن الإفريقي. ووفق المصادر التونسية يصل معظم هؤلاء إلى البلاد براً أو جواً من البلدان المجاورة، وضمن تحركات مختلطة، عن طريق البحر أو البر من ليبيا الجزائر.

وقال الرئيس التونسي قيس سعيد، عشية تلك الزيارة، إنه يرفض أن تلعب تونس دور شرطي الحدود، ويطالب في المقابل بمؤتمر دول يجمع دول شمال إفريقيا وشمال البحر المتوسط ودول الساحل والصحراء للتوصل إلى حل جماعي لملف الهجرة غير الشرعية. 

أخيراً، إن موضوع الهجرة غير الشرعية الذي أصبح يهدد الأمن القومي والنسيج الاجتماعي لدول الضفة الشمالية لحوض البحر المتوسط حسب رواية الإعلام والنخب وأحزاب اليمين واليمين المتطرف، بل حتى الـ"معتدلين" من أصحاب القرار، الموضوع إنساني بامتياز يجب أن يعالج بسياسات عامة ناجعة، بالنظر للموضوع مسألة اجتماعية وسياسية وليست كحادث من الكوارث الطبيعة، دعم المنظمات الإنسانية غير الحكومية الوطنية بالتنسيق مع وكالات وطنية مثلاً على غرار AFAD التركية في دول الانطلاق والعبور. تشجيع المسار الديمقراطي السلمي وتدعمه دول الاستقبال بصدق وجدية حتى يكون لهذا الغرب عموماً مصداقية في التعامل مع المسألة الإنسانية وحاجة المواطنين في وطنهم الذين ليسوا بالمغامرين البؤساء – لكن سياسة ازدواجية المعايير ونفاق الغرب تجاه بلدانهم في صنع الاستبداد ودعم الفاسد وقهر الحريات والديمقراطية في وطنهم زاد في تهميشهم – هذا الوطن الذي تعتبر الحرية فيه بحراً والديمقراطية محيطاً — إذن لا البحر ولا المحيط يعطيان سرهما.


هام : هذا المقال يعبر فقط عن رأي الكاتب ولا يعبر عن رأي فريق التحرير
التعليقات (0)