عدنان منصور يكتب: واشنطن وبكين ومخاطر الحرب الاقتصادية الساخنة

profile
  • clock 16 سبتمبر 2023, 2:37:30 م
  • eye 210
  • تم نسخ عنوان المقال إلى الحافظة
Slide 01

ليس من السهل أن تتقبل الولايات المتحدة زحفا صينيا يتمدد على مساحة القارات الخمس، وإن كان الزحف سلميا بأدواته الاقتصادية والتجارية والتكنولوجية، والمعرفية والمالية، والمشاريع البنيوية. كما أنه ليس بوارد الصين أيضا أن تتوقف عن نهجها في مد الجسور مع دول العالم، والسير معها قدما بغية تعزيز المصالح المشتركة، والاستمرار في سياساتها الرامية لتكون دولة عظمى في مقدمة دول العالم، حيث لديها المؤهلات والإمكانات الضخمة الكفيلة في تحقيق هدفها.
الولايات المتحدة من جانبها، ترى في منافسة الصين لها، تحديا مباشرا خطيرا يؤدي إلى إزاحتها عن موقعها الدولي كأقوى قوة اقتصادية في العالم، مع ما يرافق ذلك من إجراءات قد تتخذها الصين لوضع حد لهيمنة الدولار على الاقتصاد العالمي، والتبادلات التجارية والمالية، لذلك هي حريصة كل الحرص على التمسك بزعامتها العالمية الأحادية الجانب، والدفاع عن موقعها بكل الوسائل، ولن تقبل أن تتراجع عن مكانتها، ودورها، وقيادتها، ونفوذها ومصالحها الاقتصادية والعسكرية والاستراتيجية.

لا بد للصين والولايات المتحدة وروسيا، وغيرها، ألا تطلق العنان لأي قرار متهور فمسؤوليتها تحتم عليها عند اشتعال أي أزمة، إخماد الفتيل الذي قد يدفع العالم إلى المواجهة الساخنة

من هنا يشتد الحذر، ويتعمق التباين والتنافس لجهة المواقف والأهداف بعيدة المدى بين القطبين الكبيرين، فهل يتعذر على الولايات المتحدة والصين مستقبلا التعايش معا، من دون أن تشكل الواحدة على الأخرى خطرا استراتيجيا يهدد أمنها القومي وتتفادى اي مواجهة اقتصادية أو عسكرية مستقبلا؟ هل سيكون التنافس التكنولوجي والاقتصادي، والذكاء الاصطناعي، الذي بدأ يأخذ مكانة وحيزا كبيرين في مختلف مجالات التطور لدى الدول الكبرى، لاسيما الصين، والولايات المتحدة، وروسيا، والهند، وأوروبا، مدخلا للتفاهم والتعاون والتنسيق؟ أم أنه سيكون مدخلا للتصادم، والمواجهة والحروب؟
لقد كان العامل الاقتصادي قبل الحرب العالمية الأولى، والثانية السبب الأول، والدافع الأساس لاندلاع الحرب، نتيجة المنافسة الشديدة بين ألمانيا الناهضة وبريطانيا، بعد أن بدأت ألمانيا تشكل تحديا اقتصاديا وصناعيا، وتجاريا وعسكريا كبيرا لبريطانيا، حيث كانت بريطانيا تحتل المرتبة الأولى في أوروبا دون منازع، تجاريا واقتصاديا وعسكريا وصناعيا، وتكنولوجيا. فمنذ عام 1882، بدأت ألمانيا تشهد تطورا كبير أو سريعا في الإنتاج، وتقدما هائلا في مجالات الصناعة والزراعة، لتتجاوز الإنتاج البريطاني في مجالات عديدة، عندها شعرت بريطانيا بأن ألمانيا أصبحت قوة اقتصادية من الدرجة الأولى في أوروبا، وأن أهميتها الاقتصادية، وتفوقها العسكري، وسيطرتها البحرية، أصبحت مهددة من قبل ألمانيا، وأن التوافق بين البلدين صار أمرا صعبا حيال مسائل حيوية واستراتيجية عديدة، لاسيما أن السياسة البريطانية كانت تقف دائما ضد أي قوة تشكل لها تحديا وتنافسا اقتصاديا وعسكريا، وبالذات في أوروبا. التطور الألماني السريع في مختلف المجالات، دفع بريطانيا إلى أن تكون جاهزة وعلى استعداد لحرب لا بد منها، لتكون الخيار في ضرب الاقتصاد الألماني وشله. فكانت الحرب العالمية الأولى عام 1914، التي سبقتها بأشهر قليلة، زيارة ملك بريطانيا جورج السابع، ووزير خارجيته غراي إلى فرنسا، وهي زيارة استثنائية للقاء الرئيس الفرنسي بواكاريه، حيث انضم إليهم سفير روسيا في باريس ألكسندر أزفولسكي. الزيارة أسفرت عن توقيع الثلاثة على اتفاق حلف سري موجه ضد ألمانيا والإمبراطورية النمساوية – المجرية. بريطانيا في هذا الاتفاق الذي لم تبلغه لألمانيا، التزمت بالمشاركة في أي حرب تنشب بين الأطراف، وإن كانت ضد ألمانيا، إذ كانت الحرب بالنسبة لبريطانيا، هي المخرج والحل الوحيد الذي يضمن لها استمرار سيطرتها على الوضع الأوروربي، مع تغيير في موازين التحالفات.
كان اغتيال الدوق فرانز فرديناند وريث العرش المجري – النمساوي على يد مواطن صربي في العاصمة البوسنية سراييفو، سببا كي تشن النمسا الحرب على صربيا لمسؤوليتها عن الاغتيال، بعد أن ضمنت دعم الألمان لها، في حال دعمت روسيا صربيا. وبعد ثمانية أيام من إعلان النمسا الحرب على صربيا، ودخول الجيش الالماني إلى فرنسا عبر بلجيكا واللوكسمبورغ، أعلنت بريطانيا الحرب على ألمانيا بحجة التزامها السابق بحماية حياد بلجيكا. ذريعة بريطانيا الرسمية، لم تكن الغاية بحد ذاتها، بقدر ما كان هناك أبعد بكثير من التضامن مع بلجيكا، فبريطانيا عند إعلانها الحرب على ألمانيا، كانت خزائنها المالية تعاني من عجز كبير، وقد رأت في الحرب مخرجا ومتنفسا لها، خاصة بعد أن تقضي على عدوها الأول ألمانيا وإلحاق الهزيمة بها.
استطاع التحالف الثلاثي: روسيا، فرنسا وبريطانيا أن يهزم ألمانيا، فتحقق لبريطانيا ما كانت تطمح إليه، وتسعى له منذ سنوات، لتخرج ألمانيا من موقعها، وتحجم مكانتها وقدراتها إلى حد بعيد، بموجب بنود اتفاقية الاستسلام التي قصمت ظهرها. العملاقان الصين والولايات المتحدة، محكومان بالتعاون لأن إلغاء طرف ما، من قبل أي طرف دولي آخر، سيؤدي إلى مواجهة عسكرية، وهذا أمر خطير وغير مقبول، بسبب توازن القوى لدى أطراف دولية عديدة، وما تمتلكه من أسلحة الدمار الشامل، لأن أي مواجهة عسكرية، بين طرفين او أكثر، ستأخذ أبعادها الخطيرة والمدمرة، إذ لن تسمح دولة كالولايات المتحدة او الصين أو روسيا بهزيمة لها في الميدان، مهما كلف ذلك من ثمن، لأن هزيمتها يعني، تراجعها الحاد على الساحة الدولية، وعزلها وتطويقها، وترويضها، فيما يتفرد الآخر بالسيطرة والهيمنة على العالم، ويعزز نفوذه، ويتحكم بقراراته الدولية، لذلك، من الضروري أن يخرج هاجس السيطرة على العالم، من عقول الدول الكبرى، وأن تتخلى هذه الدول عن طموحاتها ومصالحها التي تأتي على حساب مصالح الآخرين.
إن الطموحات والتوسع، وإيجاد مناطق النفوذ والاستغلال والهيمنة من قبل دول كبرى حيال دول صغيرة، قد تحقق أهدافها من حين إلى آخر بسبب تفاوت القوة، وغياب التوازن العسكري الاستراتيجي والاقتصادي والمالي والبشري، لكن هذا الواقع لا ينطبق على دولة عظمى تمتلك من الإمكانات العسكرية الهائلة ما يدفعها إلى الرد بكل شراسة على أي محاولة تتأتى من دولة عظمى أخرى، أو دولة عادية تهدد مصالحها القومية والأمنية والاستراتيجية، لذلك يتحتم على سياسات الدول العظمى في ما بينها، أن تُخضع تطلعاتها وطموحاتها، لموازين قواها الاستراتيجية العسكرية، لأن أي استفزاز او إجراء يهدد سيادتها، أو يمس مباشرة بأمنها القومي ومصالحها الحيوية، سيلقى ردا مباشرا، ويفتح مجالا واسعا أمام الفعل ورد الفعل، وقد يؤدي بالتالي إلى المواجهة الساخنة المباشرة، واستخدام الأسلحة غير التقليدية.
لقد أفصحت الصين عن نيتها في تجنب زعزعة أركان الدول، أو نشر المبادئ الشيوعية كما كان يحصل في زمن الاتحاد السوفييتي، أو التدخل العسكري، أو الوقوف وراء الثورات والانقلابات العسكرية التي تطيح بالأنظمة اليمينية.
الصين في وقتنا الحاضر، تريد تعاونا بناء على مختلف الصعد يستند إلى الثقة الكاملة بين الأطراف، بغية تعزيز التعاون المشترك بينها، وتحقيق التنمية المستدامة والرفاهية والتقدم للشعوب.
من حق الصين أن تلعب دورا عالميا نظرا لموقعها الاستراتيجي، ومكانتها، وقدراتها وقوتها، وأن يكون لها وزنها الاقتصادي والمالي العالمي، وأن تعزز نهضتها على المستويات العديدة: العلمية، والتكنولوجية، والمعرفية، والتنمية البشرية كافة، وكذلك الأمر بالنسبة للولايات المتحدة. لكن ينبغي لكل منهما، الأخذ بالاعتبار مسألة الأمن القومي لكليهما وللدول الأخرى، إذ ان أي تهديد لموقع استراتيجي يرتبط مباشرة بالأمن القومي لطرف من الاطراف، سيدفع الطرف الآخر المهدد إلى استخدام القوة. وهنا لا بد من التذكير بما شهده ويشهده العالم من بؤر توتر في كوبا، وأوكرانيا، وكوريا الشمالية، وتايوان، ومنطقة جنوب بحر الصين وغيرها، وما يمكن للقوى العظمى المعنية، تجنب الانحدار نحو مواجهة اقتصادية ساخنة، قد تفسح المجال لمواجهة عسكرية، تلحق الدمار الشامل بالجميع. هنا تكمن مسؤولية الصين والولايات المتحدة وروسيا بالدرجة الأولى، للعمل معا على تفادي أي مواجهة عسكرية في المستقبل، على غرار ما حصل في كوبا عام 1962، حين قام الاتحاد السوفييتي بنشر بطاريات الصواريخ على الأراضي الكوبية، على بعد مئة ميل من الشواطئ الأمريكية. الرئيس الأمريكي جون كينيدي في ذلك الوقت، اعتبر أن الصواريخ السوفييتية تهدد مباشرة الولايات المتحدة وامنها القومي، وتشكل تهديدا خطيرا واستفزازا عدوانيا واضحا، ما دفعه إلى فرض الحصار العسكري البحري على الجزيرة الكوبية، ووضع الاتحاد السوفييتي أمام الأمر الواقع، فيما العالم أصبح على شفير حرب نووية، مخيرا الاتحاد السوفييتي بين أمرين: إما المواجهة العسكرية، وإما تفكيك الصواريخ وسحبها من كوبا. لم يكن أمام الزعيم السوفييتي نيكيتا خروشوف والرئيس الأمريكي جون كينيدي إلا التسوية السلمية، التي تمثلت بحل يريح الطرف الأمريكي والسوفييتي معا، يقضي بسحب الصواريخ من كوبا، مقابل سحب الولايات المتحدة قنابلها النووية من اليونان وتركيا. هكذا تنفس العالم الصعداء بعد كابوس رهيب عاشه لوقت قصير.
هل ستتصرف الدول العظمى اليوم بحكمة، وهي تواجه التطورات الساخنة التي يشهدها العالم من حين إلى آخر؟ لا بد للصين والولايات المتحدة، وروسيا، وغيرها من القوى العالمية الصاعدة، أن لا تطلق العنان لأي قرار متهور قد تتخذه، فمسؤوليتها تحتم عليها عند اشتعال أزمة من الأزمات في مكان ما، إخماد الفتيل الذي قد يجر ويدفع العالم إلى المواجهة الساخنة، لاسيما وأن هناك مناطق حيوية ما زالت تشكل بؤر توتر دائم، حيث تحتدم الخلافات بشأنها، وتدفع الأطراف المتصارعة إلى المزيد من التسلح والتباعد، وما تايوان وكوريا الشمالية، وأوكرانيا، والشرق الأوسط إلا البؤر الساخنة التي تضع على الدوام الأمن الدولي والسلام العالمي على المحك، وتفرز بالتالي تحالفات واستقطابات جديدة، تزيد من حدة الانقسامات بين القوى العظمى،التي تترك تأثيرها المباشر على الأمن والسلام الدوليين.
وزير الخارجية اللبناني السابق


هام : هذا المقال يعبر فقط عن رأي الكاتب ولا يعبر عن رأي فريق التحرير
التعليقات (0)