على الصاوي يكتب: حزمبليوس..أنا ربكم الأعلى

profile
علي الصاوي كاتب صحفي وروائي
  • clock 26 مارس 2022, 6:01:15 ص
  • تم نسخ عنوان المقال إلى الحافظة
Slide 01

يقول العلامة الكواكبي رحمه الله: "ما من سياسي مستبد إلا ويتخذ لنفسه صفة القداسة يُشارك بها الله" ربما قصد الكواكبي بعبارته الحُكام كونهم المسيطرين على مقاليد كل شيء، وتُحيط بهم الوفرة من الرجال والكثرة من القوة، وقد يقذف ذلك في قلوبهم معاني التكبّر والتجبّر فيظنون أنفسهم آلهة تمشي على الأرض.

إلا أن تلك العبارة تنطبق على كل سياسي مستبد في مُحيطه، وإن صغرت مساحة حُكمه وفقد أدوات السيطرة المُطلقة، فهو لا يَعتبر بضعف الإمكانات المادية قدر ما تنتشى نفسه بالسلطة المعنوية، التى خوّلت له التَحكم ولو على مجموعة من الأفراد في دائرة ضيّقة، يُمارس عليهم السلطوية كخطوة أولى في طريق مشروعه الاستبدادي، فأمثال هؤلاء مُجرّد مشاريع استبداد صغيرة في المستقبل إذا حالفهم الحظ وتوفّرت لهم الظروف.

وفي علم الميثولوجيا القديم هناك الكثير من القصص التى تُعبّر عن تلك النماذج السادية، من تهفو نفوسهم دوما لحب التملك وبسط النفوذ على الأخر، فتقول الأسطورة أن جماعة من الصيادين خرجوا يوما للصيد وظلوا يبحرون إلى أن شطّ بهم النوى بجوار جزيرة نائية يسكنها رجل يُدعى حزمبليوس مع زوجته التى تُدعى تَفهاء، طلبت المجموعة مساعدة الرجل وزوجته فرحّب بهم وضايفهم عدة أيام.
كان لدى حزمبليوس حُلم قديم وهو مشاركة الألهة الحكم في قريته بأى ثمن، فكان عقابه أن غضبت عليه الألهة ونفته خارج القرية، ومنعوا الناس من التواصل معه وإلا سيحلل عليهم الغضب وإنزال العقوبة، وبعد أن فقد حزمبليوس الأمل في أن يُصبح إلها لتهميشه وإبعاده عن القرية، سرت الرغبة في نفسه مجددا لتحقيق حُلمه، وبدأ يُخطط كيف يستعبد تلك المجموعة الغريبة من الصيادين ويُنصّب نفسه إلها عليهم؟

لم تتوان زوجته تَفهاء في دعمه، فحُلمها هى الأخرى أن تحصل على لقب زوجة إله، فكّر حزمبليوس كثيرا ماذا يفعل حيال الوصول إلى هدفه فلم يجد طريقة يقنعهم بها ليعبدوه ويؤمنوا به، فقالت له زوجته تَفهاء وكانت بارعة في المكر والدهاء: عليك بإحراق قاربهم في الليل فإذا جاء الصباح وجدوه مُتفحما وبهذه الطريقة لن يستطيعوا العودة إلى بلادهم ومن هنا تستطيع أن تَملك رقابهم رغما عنهم، وتفرض عليهم شروطك ليظلوا مُقيمين مُكرهين ضمن جزيرتنا النائية كعبيد.

مات حزمبليوس ضربا بالنعال وهو ما زال يصدق أنه ربهم الأعلى، فعاش كاذبا ومات ذليلا مهانا، وتلك نهاية حتمية لكل من تأله وتكّبر، وسخّر ما حباه الله به من نِعم ومكانة ليتخذ الناس عبادا له من دون الله

استحسن حزمبليوس الفكرة وبدأ في تنفيذها التي نجحت بالفعل، فقد رضخ الصيادون واستسلموا مقابل أن يتركهم يعيشون في أمن وسلام في جزيرته، فهو وحده من يعرف الطريق السرّي الذي تأتي عبره موارد العيش ليظلوا على قيد الحياة، مرّت الأيام وهم يرون حزمبليوس يمارس طقوسا روحانية كل صباح، وكلما سألوه قال لهم: أنا أحد ألهة قريتي لكنني خرجت إلى تلك الجزيرة بسبب نزاع حدث بيني وبين ألهة أخرى تريد أن تُسيّطر على خير البلاد والعباد، فخرجت أعد لهم العدة وأضاعف من قوتي لأعود وأنتقم منهم.
لم يُصدقوه في بادئ الأمر حتى بدأ بعضهم بتصديقه والبعض الأخر بتكذيبة وكلما زاد إيمان المجموعة التى آمنت به وصدقته أغدق عليها بالطعام وزاد من حصتها في الترف، في مقابل التضييق على من كذّبوه وكفروا به، فكان عقابهم أن قلل لهم حصص الطعام وحرمهم من الترفيه في الجزيرة وراقبهم عبر جواسيس من المجموعة التى آمنت به، لكن ذلك لم يُثن من عزيمتهم وقرروا أن يتخلصوا من ربقة استبداد هذا الكذاب الأشر.
ظل الوضع هكذا إلى أن صدّق حزمبليوس وزوجته تَفهاء أنهم ألهة، وظهر أثر ذلك في تصرفاتهم وتَجبرهم على من آمنوا بهم اتقاء الجوع والخوف من الموت في جزيرة معزولة عن العالم، وعلى الجانب الأخر بدأت المجموعة المتمردة في التخطيط لصناعة قارب جديد للنجاة من الجزيرة والعودة إلى بلادهم، وترك الأخرين بعد أن استمرأوا العبودية وغاصوا فيها بأقدامهم.
استطاعت المجموعة المتمردة أن تهرب في الليل على حين غفلة من عسس حزمبليوس بقارب متهالك لكنه يكفى للنجاة، إلى أن وصلوا إلى قرية حزمبليوس وأخبروا الألهة بما فعله معهم ومع أصدقائهم وطلبوا منهم أن ينقذوهم، فقررت الألهة محاربته قبل أن يكثر أتباعه ويُهدد عروشهم، لكن المفاجأة كانت عندما وصلوا إلى الجزيرة، فقد رأوا أتباعه من الصيادين وقد ثاروا عليه يضربوه بالنعال هو وزوجته، وهو يصرخ ويقول: أنا ربكم الأعلى أنا ربكم الأعلى أنا من أطعمكم وأمّنكم لماذا تضربوننا؟ استمروا في ضربة حتى مات هو وزوجته.  

وهكذا مات حزمبليوس ضربا بالنعال وهو ما زال يصدق أنه ربهم الأعلى، فعاش كاذبا ومات ذليلا مهانا، وتلك نهاية حتمية لكل من تأله وتكّبر، وسخّر ما حباه الله به من نِعم ومكانة ليتخذ الناس عبادا له من دون الله، فحزمبليوس ليست قصة من الميثولوجيا الإغريقية، لكنها أمثولة رمزية جاءت من نسيج الخيال لتكشف حقيقة بعض الطغاة والمعتوهين من السياسيين والمقامرين في هذا العصر أن خاتمة ظلمهم وتألههم على الناس قد تكون الضرب بالنعال على يد من استعبدوهم.


هام : هذا المقال يعبر فقط عن رأي الكاتب ولا يعبر عن رأي فريق التحرير
كلمات دليلية
التعليقات (0)