لماذا أصبحت دول شرق أوروبا مركز ثقل في القارة الأوروبية؟

profile
  • clock 14 أبريل 2023, 1:17:59 م
  • تم نسخ عنوان المقال إلى الحافظة
Slide 01

في أواخر عام 1989، انفصلت دول أوروبا الشرقية عن الاتحاد السوفييتي، وانتقلت من نمط الإدارة الشيوعية إلى محاولة بناء مؤسسات ديمقراطية واقتصادات موجهة نحو السوق؛ وذلك على اعتبار أن مركز الثقل الأوروبي والعالمي يميل ناحية الغرب، سواء كان ذلك استناداً إلى انتصار النموذج الليبرالي الأمريكي في الحرب الباردة، أو نتيجة اتباع دول أوروبا الغربية المتفوقة عسكرياً واقتصادياً، والأعضاء بحلف الناتو المنتصر، النموذج السياسي نفسه ذا الصبغة الليبرالية الرأسمالية. وقد تجسدت محاولات دول أوروبا الشرقية لإثبات ولائها لمراكز ثقل الكتلة الغربية في موجات انضمام بعضها إلى الاتحاد الأوروبي من جانب، بدءاً بموجة الانضمام الكبرى التي ضمت كلاً من التشيك وإستونيا والمجر ولاتفيا وليتوانيا وبولندا وسلوفاكيا وسلوفينيا في عام 2004، ثم انضمام رومانيا عام 2007، ووصولاً إلى انضمام كرواتيا في عام 2013. ومن جانب آخر، سعت هذه الدول إلى تقويض شبهات ارتباطها بالاتحاد السوفييتي السابق جملةً وتفصيلاً، عن طريق انضمام معظمها إلى حلف الناتو خلال أعوام 1999 و2004 و2009 و2017.

وبالرغم من نظرة التبعية التي طالما نظرت بها الكتلة الغربية إلى دول أوروبا الشرقية؛ لاعتبارات تاريخية وموضوعية مستقرة، فإن التحولات الجيوسياسية في الوقت الراهن – التي يأتي في القلب منها الحرب الروسية الأوكرانية – تؤشر على اكتساب هذه الأخيرة ثقلاً نسبياً أكبر من أي وقت مضى، بما يجعل الكتلة الغربية حريصة كل الحرص على عدم تحولها إلى المعسكر الآخر.

محددات رئيسية

شهدت الآونة الأخيرة تصاعداً في مكانة دول أوروبا الشرقية، وتحولها تدريجياً إلى مركز ثقل في القارة الأوروبية، وهو الأمر الذي يرتبط بمجموعة من المسببات أو المحددات التالية، التي ينبثق أغلبها من الواقع الإقليمي الأوروبي الجديد الذي فرضته الحرب الروسية الأوكرانية، بجانب مجموعة أخرى من العوامل:

1– التخوف من ارتدادات الحرب الأوكرانية: بينما تدخل الحرب الروسية الأوكرانية عامها الثاني، تهدد الشقوق المألوفة بين دول شرق أوروبا وغربها بالظهور من جديد؛ فنتيجة مثولها على خط المواجهة الأمامي مع روسيا، وجدت إستونيا ولاتفيا وليتوانيا وبولندا أنفسها في مقعد القيادة في دفع نظرائهم الغربيين لتسريع وتيرة تسليم الأسلحة إلى أوكرانيا، وحث العواصم الأوروبية على عدم الإذعان لخطاب التهديد الروسي باستخدام الأسلحة النووية. هذا، وبينما يعكس هذا الدور القيادي الجديد إدراك دول أوروبا الشرقية لوضعها الجيوسياسي الحساس، فإنه يعتبر كاشفاً عن أزمة ثقة عميقة بدول أوروبا الغربية، ومدى التزامها بمواصلة دعم أوكرانيا وعدم تراجعها نتيجة طول أمد الحرب وخسائرها الاقتصادية.

2– عدم وضوح السياسة الغربية التقليدية تجاه موسكو: طالما كانت دول شرق أوروبا تتخوف من السياسة المتقلبة للكتلة الغربية إزاء روسيا –التي تميل إلى المهادنة في بعض الأحيان – نتيجة اعتمادها على الغاز الروسي مصدراً رئيسياً من مصادر الطاقة. وكثيراً ما أدلى مسؤولون من دول أوروبا الشرقية بتصريحات تشير إلى أن تجرؤ روسيا على شبه جزيرة القرم ومن قبلها جورجيا، هو نتيجة لسياسة الردع الغامضة التي تتبناها الكتلة الغربية؛ لذلك فإنه مع اندلاع الحرب الروسية الأوكرانية وما نتج عنها من استنفار في اعتبارات الأمن، وجدت حكومات أوروبا الشرقية نفسها مضطرة للعب أدوار فكرية وسياسية أكبر تهدف إلى التأكد من أن العزلة الغربية لموسكو ستصبح سمة دائمة للسياسة الأمريكية–الأوروبية، وليست ذات طبيعة ظرفية آنية مرتبطة بالحرب الدائرة في أوكرانيا.

3– توقعات بأسبقية دول أوروبا الشرقية في التعافي الاقتصادي: بالرغم من ارتفاع معدلات التضخم في دول أوروبا الشرقية عن نظيرتها في الغرب عقب اندلاع الحرب الروسية الأوكرانية، فإن معهد فيينا للدراسات الاقتصادية الدولية قد أصدر دراسة مؤخراً تشير إلى أن بلدان منطقة وسط وشرق أوروبا “ربما استوعبت بالفعل” غالبية الصدمات الاقتصادية التي سببتها الحرب في أوكرانيا. وقال المعهد، في تقرير نُشر في 30 يناير 2023، إنه من المتوقع أن يرتفع النمو في المنطقة إلى حد ما، وأن ينخفض التضخم في نهاية عام 2023؛ أي قد يرسم الوضع الاقتصادي في هذه الدول خطط واستراتيجيات دول الغرب التي تدرك أن الوضع الأكثر تدهوراً في الشرق إنما يؤشر إلى أسبقية دوله في ظهور أعراض الصدمات. ومع ذلك، فإنه خلال عام 2023، من المرتقب أن تواجه بلدان أوروبا الوسطى والشرقية الأربعة الرئيسية – التي تضم بولندا والمجر وجمهورية التشيك وسلوفاكيا – سلسلة من الخيارات الصعبة، ووضعاً عالمياً وإقليمياً معقداً وغير مؤكد.

4– اختبار دول أوروبا الشرقية تهديدات روسية متنوعة: رغم النقطة الفارقة التي تمثلها الحرب الروسية الأوكرانية في تحول دول أوروبا الشرقية إلى مركز ثقل متنامٍ، فإنه لا يمكن إرجاع كافة المحددات لهذه الحرب وحدها، بل يمكن القول إن هذا التحول التدريجي تجاه الشرق قد بدأت ملامحه تتبلور منذ أكثر من 12 عاماً؛ حينما تولى بوتين الرئاسة لأول مرة عام 2000، وما صاحب توليه المنصب من رجوع لفكرة تمديد المجال الحيوي الروسي – أي السعي لبسط النفوذ في دول أوروبا الشرقية – للسطح مرة أخرى. بناءً عليه، بدأت هذه الدول تواجه تهديدات روسية متلاحقة، سواء عن طريق هجمات سيبرانية موسعة، مثل ما تعرضت له إستونيا وليتوانيا وأوكرانيا عدداً من المرات، أو عن طريق أعمال استخباراتية روسية تهدف إلى تجنيد موسع لمواطني هذه الدول، أو بث النزعات الانفصالية في سكان المناطق الحدودية (أعلنت كل من سلوفينيا وبولندا مؤخراً عن إحباط شبكة عملاء روس كانت تهدف إلى زعزعة استقرارهما الداخلي).

وفي مواجهة هذه التهديدات، بدأت هذه الدول تُطوِّر أجهزتها الأمنية – بالاستعانة بشركائها الغربيين – وبنيتها التحتية المعلوماتية الحرجة، بحيث تكون أكثر قدرةً على مجابهة هذه التهديدات. وعلى مدار الأعوام، نجحت بعض هذه الدول في التحول نحو الريادة في مجالات أمن المعلومات تقنياً وأمنياً، ومن ضمنها – على سبيل المثال لا الحصر – احتلال إستونيا المركز الثالث عالمياً على مؤشر الأمن السيبراني، وتحقيق دول أوروبا الشرقية بالكامل نسباً تفوق المتوسط العالمي على المؤشر ذاته.

تداعيات قائمة

أدى هذا التحول المتنامي في الوزن النسبي لدول أوروبا الشرقية إلى بعض المظاهر والنتائج التي تؤكده، ولعل أهمها يتمثل في الآتي:

1– الدفع نحو توسعة الاتحاد الأوربي تجاه الشرق: نتيجة احتلال مسألة دعم أوكرانيا عسكرياً رأس أولويات العالم الغربي بأسره، أصبحت مسألة توسعة عضوية الاتحاد الأوروبي شرقاً – بما يُكسِب الشرق مزيداً من الزخم – ضرورةً من ضرورات الواقع الأوروبي. وتكتسب هذه الضرورة أهمية خاصة في ظل حرص المحور الغربي على عدم ترك أي مناطق فراغ في الشرق قد تستغلها روسيا لتمديد نفوذها السياسي والعسكري. ولعل أهم مظاهر تحوُّل مركز الثقل تجاه الغرب، القرار الذي اتخذته الرئاسة الفرنسية للاتحاد الأوروبي في مايو 2022 لمنح وضعية المرشح لعضوية الاتحاد لكل من أوكرانيا ومولدوفا، وهو القرار الذي لاقى استحسان البرلمان الأوروبي بمختلف تياراته.

2– تقليل بعض دول أوروبا الشرقية اعتمادها على روسيا: رغم ارتباط معدلات التضخم في أسعار الطاقة بمجموعة هيكلية من العوامل يأتي على رأسها الاضطراب العام في سلاسل الإمداد، فإن بولندا قد نجحت بالفعل في تخفيض اعتمادها على الغاز الروسي بنسبة كبيرة منذ فبراير 2022 وحتى تاريخه وكذلك سلوفاكيا أيضاً. وفي حين ظهر بعض قادة هذه الدول بقدر من المباهاة، واصفين ذلك بالإنجاز، سلط بعض المعارضين الضوء على العوامل الحقيقية وراء هذا النجاح، سواء بسبب انخفاض الطلب عليه في هذه الدول مقارنةً بأوروبا الغربية أو نتيجة عدم ارتباط اقتصادات هذه الدول بشكل كبير بالاقتصاد العالمي بوجه عام. ولكن في الحالتين، يعتبر هذا النجاح النسبي أحد مظاهر أو انعكاسات التحول التدريجي للوزن النسبي ناحية الشرق، وإن كان من المبكر إصدار أحكام نهائية بشأن مدى نجاح أو فشل هذه الدول.

3– زيادة مخصصات شرق أوروبا في المرفق الأوروبي للسلام: تشير الاتجاهات السائدة خلال عامي 2021 و2022 إلى استمرار وجود طفرة في مستويات الدعم المادي الذي تتلقاه مناطق الصراع والصراع المحتمل في شرق أوروبا من المرفق الأوروبي للسلام EPF (تم تصميمه لتمويل تكاليف مهام وعمليات سياسة الأمن والدفاع المشتركة للاتحاد الأوروبي، بما في ذلك المهام والعمليات في الساحة الأوكرانية، ولتقديم المساعدة للشركاء في جميع أنحاء العالم)؛ ففي عام 2021، قدم EPF للقوات المسلحة الأوكرانية ثلاثين مليون يورو دعماً، مقارنةً بـ3.6 مليار يورو في عام 2022. وبخلاف أوكرانيا، من المرجح أن يزداد الدعم لكل من مولدوفا وجورجيا، والاهتمام بقدر أكبر باحتياجات دول غرب البلقان.

4– اهتمام أمريكي متنامٍ بدول شرق أوروبا: تعتبر زيارة الرئيس بايدن إلى وارسو التي أعقبت زيارته إلى كييف في شهر فبراير الماضي، بمنزلة نتيجة ومظهر لتزايد الوزن النسبي لدول شرق أوروبا في المعادلة السياسية الأوروبية؛ حيث كان اجتماع الرئيس الأمريكي في وارسو مع تسعة رؤساء دول من أوروبا الوسطى والشرقية مثالاً لذلك. في السياق ذاته، أدلى السفير الأمريكي في وارسو بتصريحات مفادها أن الرابطة البولندية الأمريكية “لم تكن قط بهذا القدر من التنسيق”، كما صرح رئيس الوزراء البولندي بتصريحات مماثلة تشير إلى أن التحالف الأمريكي البولندي يعتبر بمنزلة بوابة الأمن للقارة الأوروبية بأكملها. ورغم عدم تصور إحلال هذه الدول محل الريادة الاستراتيجية التقليدية لدول غرب أوروبا مع واشنطن، فإن التطورات المشار إليها تؤشر بلا شك على زيادة وزنها النسبي؛ ليس فقط في أوروبا، بل في شبكة أحلاف الولايات المتحدة أيضاً.

5– تزايد ارتباط المنطقة بأهداف حلف الناتو: لا يمكن إغفال أن تصاعد مكانة شرق أوروبا وتأثيرها في السياسات الأوروبية يرتبط، في جانب رئيسي منه، بتزايد أهمية المنطقة بالنسبة إلى خطط وأهداف حلف الناتو؛ حيث عززت حرب أوكرانيا أهمية دول شرق أوروبا للناتو باعتبار أنها تمثل الحاجز الرئيسي بين روسيا والدول الغربية. ولعل هذا ما يفسر حرص الحلف على تقديم المزيد من الدعم العسكري لدول شرق أوروبا وتأكيد الوقوف بجانب هذه الدول ضد أي تهديدات محتملة؛ فعلى سبيل المثال، أكد الأمين العام للحلف، في تصريحات خلال شهر أبريل الجاري، أن الناتو “يعزز جاهزيته في شرق أوروبا لمنع روسيا من شن أي هجمات جديدة ضد جيرانها”، على حد قوله.

الخلاصة: تشير الدلائل في الوقت الراهن إلى تحرك مركز الثقل الأوروبي بشكل نسبي تجاه الشرق، في ظل الأهمية السياسية والاستراتيجية المتنامية لدول أوروبا الشرقية، التي شهدت طفرة نوعية نتيجة اندلاع الحرب الروسية الأوكرانية. ورغم هذا التحول الواضح، يظل من المبكر افتراض أن الوزن الكامل سيتغير لصالح الشرق في ظل التحولات المتلاحقة التي تشهدها القارة الأوروبية، وفي ظل التفوق الاقتصادي والعسكري والتكنولوجي النوعي لدول أوروبا الغربية على المديين المتوسط والبعيد.

كلمات دليلية
التعليقات (0)