محمد أبو الفضل يكتب: منافسة أم صراع على أفريقيا

profile
  • clock 19 يوليو 2023, 4:36:45 م
  • تم نسخ عنوان المقال إلى الحافظة
Slide 01

نتهى زمن الصراعات الكثيفة والمحتدمة بين القوى المختلفة على أفريقيا، فلم تعد مقاربة أي دولة كبيرة أم صغيرة يمكن اختزالها في إزاحة أخرى، فغالبية الدول الأفريقية خرجت من هذه الشرنقة وتستطيع تحديد مصالحها، ولا توجد قوة عالمية قادرة على التحكم في مفاصل الحل والعقد بمفردها، فقد امتلكت دول عدة زمام أمورها بما جعلها لا تستسلم لهيمنة قوة خارجية وتدير علاقاتها على أساس المصالح.

نكأت جولة الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي لكل من كينيا وأوغندا وزيمبابوي، والتي اختتمت الخميس الماضي، الكثير من الجروح السياسية والاقتصادية والعسكرية، فقد صورها البعض نوعا من التسلل الإيراني الناعم إلى القارة، بينما هي تندرج ضمن منافسات تقوم بها دول عديدة، لا تقتصر على الولايات المتحدة والصين وروسيا والهند وفرنسا، أو تركيا وإسرائيل ومصر والسعودية والإمارات وقطر والجزائر.

أصبحت أفريقيا بما تملكه من موارد طبيعية وفيرة وأهمية جغرافية ممتدة، وتهديدات أمنية بعد ولوج جماعات متطرفة لها، فضاء مغريا لقوى باحثة عن مصالحها.

 

ظلت هذه القارة فترة طويلة أسيرة لتقديرات بعض القوى، وجرى الحديث عن مناطق نفوذ لدول بعينها، وبعد الانسحاب التدريجي لفرنسا وضعف الوجود الأميركي وقبلهما انتهاء زمن الاستعمار التقليدي (البرتغالي والبريطاني والبلجيكي والإسباني والهولندي..) تغيرت الكثير من المفاهيم ودخلت قوى جديدة وباتت لدول القارة قدرة على الفرز والاختيار وعدم الرضوخ والاستسلام ورسم المصالح المشتركة.

وقد تنوعت القوى المؤثرة وفقا لقدراتها وإمكانياتها وما تريد تحقيقه من قائمة مصالح طويلة ودرجة الاستجابة من الدول المستهدفة التي تملك مستوى مرتفعا من القبول أو الرفض حاليا، ويؤكد النضج الظاهر في التفاعلات الإقليمية والدولية أنها لم تعد مستقبلة فقط، وخياراتها تحددها بنفسها وليس وفقا لإملاءات أو شروط فوقية.

أدركت دولة مثل إيران هذه المسألة، وحاولت عبر جولة إبراهيم رئيسي تأكيد أنها لا تريد تصدير ثورة أو فرض هيمنة أو مناكفة قوى أخرى، وكشفت تشكيلة الوفد الذي صاحبه وضم عناصر اقتصادية أن الهدف تعزيز المصالح المشتركة والبحث عن فرص واعدة للاستثمار وليس الاستنزاف لأي من الدول وتوريطها أو إحراجها.

يبدو هذا التوجه مدخلا رئيسيا للكثير من القوى التي تبنت مقاربات إيجابية حيال أفريقيا التي أصبحت مفرداتها مرتبطة طرديا، فكلما زاد ضخ الأموال وارتفع سقف الروابط الاقتصادية نمت وتطورت العلاقات الثنائية، ولم تعد هناك جهة تحتكر لنفسها دولة أفريقية، فكل القوى التي اقتربت من القارة لها وجود ومصالح مع كثيرين، والعكس صحيح.

يصعب القول إن الولايات المتحدة تهيمن على إثيوبيا أو كينيا أو غيرهما، كما تصعب الإشارة إلى أن تركيا لها حضور طاغ في الصومال، أو القول إن فرنسا مسيطرة على جيبوتي، فكل دول أفريقيا التي لها علاقات مع دول من خارجها لها أيضا علاقات مع آخرين ومتنوعة، ما يمنح فكرة المنافسة أولوية على الصراع.

تنأى الكثير من الدول الأفريقية عن جر شعوبها إلى صراعات أو السعي لتصفية حسابات لصالح قوى من خارج القارة، وترمي إلى توظيف العلاقات المتشعبة في تطوير هياكلها، الأمر الذي يضع تحديات بالجملة أمام الدول الراغبة في أن يكون لها موطئ قدم اعتمادا على تاريخ من دون قدرة حقيقية على تعظيم المكاسب مع دول أفريقية تريد الخروج من دوائر الفقر والنزاعات الأهلية التي نخرت جسدها عقودا طويلة.

تبحث الدول الأفريقية عمن ينقذها ولا يملك الكثير من قادتها رفاهية الانسياق وراء شعارات أو دخول تحالفات تؤثر تداعياتها سلبا على بلدانهم، فمعيار تحقيق المكاسب يتجاوز غيره من المعايير التي استنزفت ثروات القارة، ومن يراجع الدول الساعية لتثبيت وجودها في القارة يجد أن المقدمة اقتصادية ثم تأتي روافع أمنية وسياسية وإنسانية.. لتعزز الدور الاقتصادي كأولوية أفريقية ودولية.

كما أن الدول الإقليمية التي تعتقد أن بعض دول القارة تحولت إلى ملاذ لبعض الجماعات المتطرفة لن تتمكن من توطيد علاقاتها مع الحكومات المحلية لمحاربتها دون أن تملك الأولى مالا سخيا تساعد به الأخيرة على مواجهة متشددين يستغلون الفقر لزيادة تمددهم ونجحوا في توسيع نفوذهم باستغلال قاعدة اجتماعية رخوة، ولن تقوى هذه القاعدة دون تلقي مساعدات اقتصادية سخية خارجية.

من ينظر إلى مشاهد توسع القوى الإقليمية والدولية في أفريقيا يتأكد من أن المعيار الاقتصادي عنصر مؤثر في هذه المعادلة، وهو ما يفسر زيادة نفوذ الصين مؤخرا، ورصد تركيا مبالغ كبيرة للفترة المقبلة، وتحفز إيران للتوسع، ويعلم لماذا لم تحقق الجهود السياسية لدولة مثل الجزائر انتشارا كبيرا.

أولماذا بدأت مصر تتجه إلى ضخ استثمارات، ولو محدودة، في دول حوض النيل، وتتيقن أن علاقاتها داخل القارة لن تظل مرهونة لميراث تاريخي عندما كانت القاهرة ملهمة لحركات التحرر في القارة خلال فترة الستينات من القرن الماضي، فإحدى أبرز الأزمات المصيرية التي تواجهها مصر في القارة الآن تكمن في سد النهضة الإثيوبي، وهو أزمة فنية – سياسية بوجوه اقتصادية أيضا.

تستطيع دول الوفرة الاقتصادية العربية، ممثلة في دول الخليج، تحقيق تفوق في هذا المضمار بما تملكه من فوائض مالية وطموحات سياسية، دفعت بعضها (السعودية والإمارات وقطر) خلال السنوات الماضية إلى التركيز على دول مهمة في شرق القارة، مثل إثيوبيا والسودان وكينيا والصومال، وبدأ طموحها يمتد إلى مناطق أخرى.

إذا كانت الصراعات معرقلة إلى المزيد من التمدد، فإن أحد أهم الأهداف في المرحلة المقبلة سوف ينصب حول وضع آليات للحد منها، لأن التنمية تنشأ في حضن الأمن وتتوسع مع الاستقرار، ما يفسر الاهتمام الخليجي المتزايد بوضع حد للحرب في السودان، والتي يمكن أن تمتد إلى دول الجوار وتؤدي لمزيد من التوترات بعد أن لاحقت في الأفق بوادر تهدئة في الصومال، وإخماد أزمة إقليم تيغراي في إثيوبيا.

تجاوزت الكثير من الدول جانبا من عملية تغذية الصراعات ودعم الحروب بالوكالة وتهريب الأسلحة، وبدأت تولي اهتماما كبيرا بالتسويات السياسية، والتركيز على مد النفوذ عبر منافسات محتدمة وتجنب الدخول في نزاعات لتكبيد قوى أخرى خسائر، بعد ما انتبهت دول أفريقية عدة للمخاطر التي تنطوي عليها هذه اللعبة القذرة، ووضعت دولا متباينة في متاهة طويلة من الاستقطابات، لا تزال نتائجها ماثلة في الأذهان لما أفضت إليه من مشكلات دمرت جزءا كبيرا من حياة الشعوب.

يميل العالم إلى المنافسة وتجنب الدخول في صراعات قد تكبد الجميع خسائر باهظة، ولم تعد قوى عديدة راغبة فيها، وهذا يمنح المنافسات فرصة، لكن لا أحد يضمن عدم تحولها إلى حروب بسبب مكونات البيئة المحلية التي تخلط بين المنافسة والصراع

 


هام : هذا المقال يعبر فقط عن رأي الكاتب ولا يعبر عن رأي فريق التحرير
التعليقات (0)