- ℃ 11 تركيا
- 4 مايو 2024
محمد الشناوى : المستبد العاطل
محمد الشناوى : المستبد العاطل
- 28 أبريل 2021, 7:59:08 م
- 796
- تم نسخ عنوان المقال إلى الحافظة
أنا المستبد العاطل , كلي مشاكلٌ مع الجميع , بحيث أشعر كثيرا أني أعيش وحدي , أو بالأصح مسجونٌ وحدي .
أطلقوا عليّ لقب المستبد منذ أن كنت ناعم الأظافر , رغم أن ما كان يبدو لي من نفسي ساعتها , هو شعورٌ بالجهاد المقدس من أجل إعلاء شأن الفكرة .
وكنت كغيري من المطُاردين من شعب مصر , أُطارد يوميا في الجرائد ووسائل الإعلام بأخبار تؤكد شيوع الفساد وإنحطاط الذوق , والإنحدار السريع للهاوية .
وأقنعني أحدهم بأن أزمة البشرية تكمن في المسافة بين الفكر والسلوك , فحاولت تضييق المسافة قدر الإمكان , فاصطدمت بنفسي وأصابتني آلام كثيرة , لم أُشفي منها حتي الآن .
اسمي مهاب الجعفري , بلدي في صعيد مصر , اسمها عزبة الأكراد علي تخوم أسيوط , وظيفتي هي البحث عن وظيفة , فمرة أنا مخرج , ومرة مصور , ومرة مونتير , ومرة كاتب , ومرة نحات , ومرة لا أجد قوت يومي .
عشت خمسا وثلاثين سنة من عمري الذي يبلغ الثالثة والأربعين ككل الناس , لي بيت وإمراة وطفلين كالملائكة , وسيارة , وعمل ثابت .
لكن لأن الشيء الوحيد الثابت هو التغير المستمر , فقد تغيرت حياتي عندما اشتعلت الثورة في أرجاء مصر .
ومع الآمال العريضة التي بثتها الثورة في النفوس , تصدعت روح المجتمع , وساد الإنقسام , والإغتراب , والتناقض , حتي أن مصر قد صارت هي النقيض لأي شيء .
خلال إستغراقي كالملايين في أتون الثورة , تخيلت أن المهمة الملقاة علي عاتقي أن أغير العالم , أو أن أعدله , لكني لم أستطع في النهاية سوي أن أتكيف معه رغما عني .
حين اتهمني القاضي الجالس علي المنصة بأنني أحاول أن أقلب نظام الحكم , وأسعي لبث روح تشاؤمية في المجتمع , وطرح أفكار سوداوية من شأنها تكدير السلم العام , لم يكن من مفر أمامي سوي المنفي .
أرسلت لي روزيت دعوة لللسفر إلي بولندا , وبسرعة البرق غصت في بلاد الثلج , لكن روزيت أشمست صقيع دنياي بدفئها الآسر .
معها روزيت آمنت وتيقنت بأن معجزة الحب أنه يستطيع أن يحيل الآخر الذي يبدو أمامنا كعائق إلي نقطة إرتكاز نستند عليها , وهذا ما حدث مع روزيت .
اتكأت عليها , وتحملتْ جمود روحي التي مزقتها الثورة .
عشت ثلاث سنوات في وارسو , في شارع اسمه نور الظلام يطل علي بحيرة راكدة , لا تتحرك مياهها أبدا .
ولأن الحب العميق دائما ما يتعرض لخطر الإنفصال , فقد انفصلت عن روزيت وأثناء جنون كنت دائما أستغرق فيه , ألقيت ملابسها وكتبها في نار المدفأة , وظلت تنظر للنار وتصرخ كالمجانين .
كل ما أعرفه أنها خرجت ولم تعد ثانية , وبعدها لم أجد حتي رغيف الخبز , ونمت في شوارع وارسو الصقيعية , ولم اجد بديلا سوي العودة لمصر .
لا أعرف ما الذي دفعني لأن أحرق ملابسها , هل كنت أنتقم من عالمها المستقر في مواجهة عالمي الهش ؟
هل كنت انتقم من نفسي ؟
لا أعرف , لكني ندمت علي خطأي معها , وأدركت أن الإساءة التي وجهتها لها ما هي إلا إساءة وجهتها لنفسي .
كان مسجد سيدنا الحسين موطني الأنسب بعد أن عدت لمصر , اسرني الصوفيون بهيامهم الدائم , لكني أردت للصوفية أن تقوم علي دعامة من العقل , فألقوا بي بعيدا عن أروقتهم , متهمين إياي بالإلحاد .
عدت مضطرا إلي حضن أصدقائي من الإشتراكيين الثوريين في حاناتهم المغلقة عليهم , رأيت أنهم يمثلون الإنسان الحر , وأنهم لا يعرفون وطأة الخطيئة , ولا يعفرون جباهم بالشعور بالذنب .
انغمست في عالمهم وأوعزوا إليّ أني حامل رسالة وصاحب سلطة , ودفعوني دفعا إلي التكيف مع الغوغاء في خيالاتهم الباهتة .
قالوا لي إذا كان لديك الأقاويل الجاهزة للرد علي كل أصحاب الفلسفات , فلك أن تبشر بأيام كلها سواد , لأنك ستقف أمام الكلمات خاشعا , وبعدها ستنام هانئا بإحساسك أنك قلت وقلت وقلت , أنت تستطيع أن تكتب وتكتب وتكتب وتكتب وتكتب ولا تصل لشيء إلا ما يريده من يضغط علي زناد الفعل .
مع أصدقائي الإشتراكيين الثوريين آمنت أن مشاغل الحياة الأرضية هي هم وعبء , واستغرقت كليا في البحث عن مطلق أستريح له , لكن ضميري أصابني بنوع من التمزق , فبمجرد ما أدركت ذاتي في إنعزالي عن الناس , فإنني سرعان ما وقعت ضحية للشعور بالوحدة والضعف .
ولم أجد طريقا سوي بالهروب منهم ( الاشتراكيون الثوريون ) وبحثت عن الله , وأردت ان اجعل الخيال طريق لذلك , وعندما قاربت علي الوصول تعثرت , فسموم الشيطان لم تترك لخيالي فرصة للنجاة .
أنا يا سادة بدون مجاملات لنفسي , رجل غريب , منعزل , لا يعرف له وطنا غير الأفكار , أشعر دائما بحاجة لإله يحميني , يقف بجانبي , ربما كانت الوحدة القاسية التي عشتها وحتي وأنا في حضن إمرأتي , هي ما دفعتني إلي تسليم حياتي كاملة لله , فوجدت في الحضرة الإلهية حصنا منيعا يحميني ضد العالم الخارجي .
وكنت علي إستعداد كإشتراكي ثوري مؤمن أن أضحي بأي شيء في سبيل الله .
ولأنهم رأوني مهرطقا حاول المزيج بين الله وبين أفكارهم , قالوا لي في إجتماع عقدوه لفصلي من التنظيم ( ما أنت سوي حمار ميت , يحتقر الواقع ويزدري الناس , ويخيل إليه أنه قد اهتدي إلي المفتاح الذي يفض جميع الأسرار , وكأنه النهاية الحتمية للبشر ) .
وبصقوا علي أفكاري وقالوا لي ( لا تتخيل أن حيلك الفلسفية الخداعة , واستسلامك لأحلام تنبؤية كاذبة , وارتماءك في حضن أفكار بهلوانية عابثة , قد يحميك من السجن , الذي سيكون مصيرك الوحيد ) .
الآن أنا وحيد بلا روزيت وبلا اصدقاء , أحاول أن أتصالح مع العالم , أحاول أن أتجاوز مثاليتي التي أدركت في النهاية أنها داء عقيم يجب أن أُشفي منه .
دعوني في النهاية أقول أنني ترددت كثيرا في الكتابة عن نفسي , ورأيت أنني لا بد سأدور في دائرة مربعة , شئت أم أبيت , وأنني لا بد سأفتح عيني في عجز ودهشة علي أفكار بهلوانية أو ضروب من السحر والشعوذة , وآخر الأمر لا بد سأهزأ من نفسي .
وبالفعل توترت طويلا وأنا أحاول الكتابة عن نفسي , ومزقت مرات ومرات ما كتبت , حتي رضيت بالمحاولة , وقلت في النهاية لنفسي :
أيا كان ما سيكون فلا بد أن تدرك أن تاريخ العالم وتاريخ مصر قد تجاوزك , وأنك لست إلا مستبدا عاطلا هزم نفسه بعشق حربه التي لم تكن لازمة لكي يعيش أو حتي لكي يموت .
كلمات دليلية
التعليقات (0)
إقرأ أيضا
أحدث الموضوعات
جمعة, 03 مايو 2024
بريطانيا: نتوقع بدء عمليات ترحيل اللاجئين إلى رواندا في يوليو المقبل جمعة, 03 مايو 2024
نيويورك تايمز: كيف يمكن للمتظاهرين أن يساعدوا الفلسطينيين فعلياً؟ (مترجم) الأكثر قراءة
جمعة, 08 أكتوبر 2021
مصادر: إبراهيم منير يتخذ قرار بإيقاف ٦ من الشورى العام سبت, 18 سبتمبر 2021
د. أيمن منصور ندا يكتب : عندما تلقيت اتصالاً من الرئيس السيسي خميس, 30 سبتمبر 2021
طارق مهني يكتب : بزنس المعارضة - سبوبة الزنازين اثنين, 01 نوفمبر 2021
تقرير : كيف ساهم " أبو دية " عبر أذرعه المالية في تدجين المعارضة المصرية بالخارج جمعة, 28 مايو 2021
تعرف على مدينة المقاومة تحت أرض غزة ودورها في معركة سيف القدس رأي حر
اثنين, 22 أبريل 2024
هادي جلو مرعي يكتب: السوداني زيارة ناجحة لواشنطن.. فهل نحن مستعدون لجيل سياسي جديد؟ أربعاء, 17 أبريل 2024
فراس الحمداني يكتب: فاطمة قيدار ثلاثاء, 16 أبريل 2024
مديحة البياتي تكتب: ما قل ودل.. لا تسيئوا إلى جيشكم!