محمد هنيد يكتب: هل انتهت الشعوب؟

profile
  • clock 17 أغسطس 2023, 6:02:36 م
  • تم نسخ عنوان المقال إلى الحافظة
Slide 01

لا يمكنك أن تتنقل داخل أروقة أي فضاء عربي سواء كان واقعيا أو افتراضيا عاما أو خاصا شعبيا أو نخبويا رسميا أو غير رسمي دون أن يطرق سمعك حديث عن واقع الشعوب المرير اليوم. لقد أحدثت انتكاسة الثورات حالة من الحزن الصامت واليأس القاتل الذي تحوّل شيئا فشيئا إلى ما يشبه سحابة ثقيلة خانقة تقبض على المشهد القاتم بقوّة.

يتفّق الجميع تقريبا على أن الشعوب اليوم من المشرق إلى المغرب ومهما اختلفت سياقاتها تتقدم بسرعة نحو الهاوية السحيقة التي وقعت فيها ليبيا وسوريا واليمن والعراق والسودان ولبنان. بل إن الجميع يقرأ الفنجان اليوم عن الدولة أو الدول التي سيأتي الدور عليها لتسقط في الخراب الكبير.

في غضون ذلك استعاد النظام الرسمي العربي ممثلا في الجامعة العربية قوّته وبطشه اللذان كانا له قبل الثورات ونجح حتى في تعويم سفاح الشام الذي قتل أكثر من مليون سوري وهجّر الملايين.

فهل تعني هاته المؤشرات نهاية مقولة الشارع العربي؟ هل انتهت الشعوب وفُقد الأمل في كل قدرة على التغيير؟ هل استتبّ الأمر للطغاة والوكلاء نهائيا؟

حتمية التغيير

علميا لا يمكن الجزم بنهاية القدرة على التغيير لأن السياقات والأجيال تتغير وتتطوّر فحتى إذا سلّمنا بنهاية هذا الجيل فإن الأجيال القادمة لن تكون لها نفس ردّة الفعل. لكن لا يمكن من جهة أخرى أن ننكر أن الأجيال التي تتجدد هي نفسها التي قد تنقل إلى الأجيال التي تليها مبدأ القابلية للخضوع والقبول بالفساد بمعنى أن الجيل الذي يتربى على القابلية للاستبداد لن يكون قادرا على التحرر مما لم يتحرر منه الجيل الذي سبقه.

 

لقد برهنت الشعوب بصمتها وسكوتها عن أنها قابلة لما تتعرض له من قمع وقتل وتشريد وهو الأمر الذي خلق حالة من اليقين لدى النظام الرسمي من أنّ فزاعة الشعب قد انتهت إلى الأبد.

للتدليل على هذه الفرضية تمكن الإشارة إلى أنّ أجيال السبعينات والثمانينات وحتى التسعينات كانت أكثر حماسا وتحركا ووعيا سياسيا من الأجيال الحالية التي لم تعد تتفاعل بالقدر الكافي مع تطورات المنطقة. لكن من جهة أخرى هناك من يرى أن الأجيال الجديدة أقل قدرة على التنظير والطرح الفكري الأيديولوجي لكنها أقدر على الفعل وردّ الفعل مثلما حدث خلال الثورات الأخيرة.

التغيير في البلاد العربية مسألة حتمية لأن الحال لا يمكن أن يستمر على ما هو عليه بعد شبح الإفلاس الذي يهدد أكثر من دولة وهو ما يفتح دولا عربية عديدة على المجهول الذي يشمل انهيار الأنظمة وسقوطها بفعل داخلي أو خارجي أو بفعل مشترك بينهما.

الثابت من المشهد الإقليمي والدولي أن هناك متغيرات كثيرة في الطريق فكل المؤشرات تؤكد على أنها متغيرات بفعل خارجي هذه المرّة كما يدل على ذلك الصراع في سوريا أو في النيجر أو في السودان أو في اليمن أو في ليبيا. في هذه المساحات الإقليمية يظهر جليا الصراع الدولي على النفوذ وعلى الثروات والقواعد العسكرية والموارد الأولية بعد أن عجزت الشعوب والأنظمة على حد سواء عن حماية سيادتها وثرواتها.

الشعوب وضياع فرصة الجيل

لا شك أن الثورات التي اجهضت قد مثلت فرصة تاريخية نادرة تكون فيها الشعوب الفاعل المركزي في عملية التغيير الاجتماعي والسياسي لأول مرّة في تاريخ المنطقة. لكن الجموع التي استطاعت إسقاط أربعة من أعتى الدكتاتوريات لم تنجح في إنقاذ المسارات الانتقالية إذ سرعان ما انقبلت عليها الدولة العميقة وعاد الاستبداد أقوى من ذي قبل عابرا على صوت الرصاص ومشاهد المجازر والمذابح.

كانت مشاهد الموت القادمة من سوريا ومناظر المذابح القادمة من مصر وليبيا كاشفة عن حجم السكون الذي أصاب ردّة الفعل الشعبية فكيف يمكن أن نفسر سكوت ملايين المصريين عن مذبحة رابعة مثلا؟ كيف يمكن أن نفهم صمت عشرات الملايين عن قتل المدنيين وحرقهم في الشوارع والساحات؟

 

التغيير في البلاد العربية مسألة حتمية لأن الحال لا يمكن أن يستمر على ما هو عليه بعد شبح الإفلاس الذي يهدد أكثر من دولة وهو ما يفتح دولا عربية عديدة على المجهول الذي يشمل انهيار الأنظمة وسقوطها بفعل داخلي أو خارجي أو بفعل مشترك بينهما.

لقد برهنت الشعوب بصمتها وسكوتها عن أنها قابلة لما تتعرض له من قمع وقتل وتشريد وهو الأمر الذي خلق حالة من اليقين لدى النظام الرسمي من أنّ فزاعة الشعب قد انتهت إلى الأبد. بقطع النظر عن وجاهة هذه الخلاصة فإنه لا بد من الاعتراف بأن الحدود سايكس بيكو قد نجحت نجاحا كبيرا في عزل الشعوب والمجتمعات عن بعضها البعض.

وهو ما يفسر سكوت شعوب الخليج مثلا عما يحدث في السودان أو في سوريا بشكل يمكن أن يمثل ضاغطا على النظام الرسمي العربي نفسه. إن أكبر مظاهر الخطر وتراجع الوزن الشعبي إنما يظهر في تباعد اهتمامات الشعوب بعضها عن بعض خاصة في ظل الأزمات الاقتصادية التي تضرب المنطقة.

من جهة أخرى يرى كثيرون أن ردة الفعل الشعبية لا تخضع للمنطق التحليلي ولا للدراسات الكمية بل هي طاقة انفجارية غير متوقعة مثلما حدث خلال الثورات الأخيرة. وهو الأمر الذي يعني أن الثورات نفسها ليست إلا جزءا من مسار أكبر تكون هي داخله موجة أولى ستعقبها حتما موجات لاحقة.

لكنّ الثابت الأكيد هو أن المنطقة العربية قد طوت طورا أساسيا من تاريخها الحديث وأنها قد دخلت طورا جديدا سيكون الفاعل الرئيس داخله جيل جديد أيضا عاصر الثورة وشهدها وعايش تبعاتها سلبا وإيجابا. وهو الأمر الذي سيحصّن حتما موجات التغيير القادمة من الانتكاسات التي عرفتها الموجة السابقة.

يشهد الشارع العربي اليوم رغم كل الأزمات نوعا من الغربلة الذاتية التي تُذيب رواسب الأيديولوجيا النظرية وشعارات النخب السياسية فتتخلص منها لتفرز محفّزات واقعية مادية ستكون الرافعة اللازمة للتحرر من طريق الفناء والخروج من دائرة العدم.

 

 


هام : هذا المقال يعبر فقط عن رأي الكاتب ولا يعبر عن رأي فريق التحرير
التعليقات (0)