هشام الحمامي يكتب: الرجل الذي لم يقل كل ما لديه.. فهمي هويدي

profile
  • clock 3 سبتمبر 2023, 3:52:25 م
  • تم نسخ عنوان المقال إلى الحافظة
Slide 01

يوم الاثنين الماضي (28 آب/ أغسطس) كان يوم ميلاد الكاتب والمفكر العروبي الكبير الأستاذ فهمي هويدي، ليستهل عاما جديدا في عمره المديد، المملوء بالصحة والعافية والعطاء إن شاء الله، ومن يعرفون الأستاذ فهمي عن قرب يقولون إنه الآن في أفضل حالاته الصحية، بدنا وعقلا ونشاطا وعملا.. عمل دائم وتأمل دائم، ولا زالت سعة العقل ولا زال خصب الخيال ولا زالت فسحة الفكر؛ كما هي.. أدامها الله عليه.

كل قرّاء العربية لا زالوا يتطلعون إلى هذا الاسم الكبير، الذي أصبح على مر الزمن علامة بارزة على الكرامة والشموخ والبهاء والصدق.. صحيح أنه لم يعد يكتب في صحافة مصر.. عملا بنصيحة الفيلسوف الكبير شمس الدين التبريزى (1248م): إذا أردت قول "الحقيقة" عليك بالخروج إلى الجبل، والصحراء، فليس لك طريق بين الناس.. لكنه لم يخرج لا إلى جبل ولا صحراء.. واختار غرفة مكتبة ببيته في ضاحية مصر الجديدة.. في عزلة اختيارية هنيئة وهادئة ومثمرة..

ورغم أنه لم يقل كل ما لديه.. إلا أنه رفض الكتابة خارج مصر، ولا حتى التحدث لوسائل الإعلام إلا قليلا جدا.. وهو الموقف الذي يُظهر لنا بعضا من طبيعة الرجل، المليئة بالأصالة والشرف، ليس فقط لأنه من آل هويدي المعروفين بتلك السمات وغيرها، فسيكون علينا هنا أن نعلم أن والده الكريم رحمه الله كان من كبار رجال الحركة الوطنية والإصلاحية في الثلاثينيات والأربعينيات.
 

رفض الكتابة خارج مصر، ولا حتى التحدث لوسائل الإعلام إلا قليلا جدا.. وهو الموقف الذي يُظهر لنا بعضا من طبيعة الرجل، المليئة بالأصالة والشرف، ليس فقط لأنه من آل هويدي المعروفين بتلك السمات وغيرها، فسيكون علينا هنا أن نعلم أن والده الكريم رحمه الله كان من كبار رجال الحركة الوطنية والإصلاحية في الثلاثينيات والأربعينيات


وعلى رأي عمنا الشاعر بن دريد (ت: 933م): ما طاب فرع لا يطيب أصله.. وها نحن أمام فرع طاب أصله.. بل ونعم الفرع ونعم الأصل.. و"الطفل أبو الرجل" كما قال الشاعر الإنجليزي الكبير وردزورث (ت: 1850م) في قصيدته الشهيرة "قلبي يقفز للأعلى".. والباب مفتوح على جانبيه لمن "أراد" أن "يتغير".. فالحق تبارك وتعالى قال لنا: "إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم".. كما ورد في سورة الرعد.

* * *

هكذا العظماء حين نتحدث عنهم يأخذوننا دائما إلى الأعماق العميقة لكل فكرة ومعنى.. لكن كل هذا في جانب والدور الضخم للأستاذ فهمي والذي قام به خير قيام، مستعينا فيه بكل ما لديه من ترسانة وجدانية ومعرفيه، في تحصين حصون الأمة من التطرف والإرهاب (بشقيه الديني واللا ديني).. في جانب آخر تماما..

فالرجل ليس عالم دين، وإن كان فقيها بالمعنى الأوسع للفقه تعقلا وفهما وإدراكا.. وليس فيلسوفا، وإن كان مفكرا بالمعنى الأوسع للفكر وقعا وواقعا وتنظيرا.. وليس سياسيا، وإن كان مصلحا بالمعنى الأوسع للإصلاح تصورا واستشرافا وحضورا..

* * *
وبذلك، ومن كل ذلك دشن في المكتبة العربية والإسلامية من العطاء ما سيظل نبعا منيرا وما سيظل يُقرأ قراءة مرجعية لأزمان طويلة قادمة.. وهو الذي ذهب في ذلك أبعد بعيدا من كل الآخرين، ودون أن يستبعد شيئا من لا من الأولين ولا من الأخِيرين.

خذ مثلا: القرآن والسلطان، مواطنون لا ذميون، تزييف الوعي، حتى لا تكون فتنة، إحقاق الحق، التدين المنقوص، المفترون، مصر تريد حلاً، إيران من الداخل، الفتنة الكبرى، حدث في أفغانستان، المسلمون في الصين، أزمة الفكر الديني، العرب وإيران، أزمة الوعي الديني.. وغير ذلك من مئات المقالات المحملة بالحقائق والتاريخ، يتبصر فيها بعمق وفهم لماح، والتي كان ينتظرها قراء العربية في العالم كله من منتصف الثمانينيات وحتى وقت قريب..

* * *
 

دشن في المكتبة العربية والإسلامية من العطاء ما سيظل نبعا منيرا وما سيظل يُقرأ قراءة مرجعية لأزمان طويلة قادمة.. وهو الذي ذهب في ذلك أبعد بعيدا من كل الآخرين، ودون أن يستبعد شيئا من لا من الأولين ولا من الأخِيرين


ويقول لي أحد الأصدقاء: كنا نلتقي في هذه المقالات بذاتنا، ونحاورها في حضور وعينا بأنفسنا ووعينا بكلماته.. وكان توزيع أعداد الأهرام يوم الثلاثاء (مقاله الأسبوعي الأشهر) يكاد يساوى توزيعه يوم الجمعة.. وذاك في زمن "الأهرام" الذي كان.

* * *

وتاريخ الأستاذ فهمي هويدي المهني في الأهرام يعود للعام 1957م، نفس العام الذي تسلم فيه الأستاذ هيكل تحرير الجريدة التي ستكون الأهم والأكبر في الشرق الأوسط كله، وسيمكث إلى العام 1976م.

وسيكون ضروريا هنا أن نعرف أنه كان أحد أقرب الناس إلى قلب وعقل الأستاذ هيكل (ت: 2016م) في السنوات الأخيرة فقط.. فلم يكن من تلك الدائرة التي تحلقت حول نجم الصحافة والسياسة، طوال فترة رئاسته للأهرام، ولم تنشأ بينهما تلك الصلة العميقة إلا بعد أن غادر الأستاذ هيكل الأهرام في 1974م.

* * *

حين خلا كرسي الأهرام من الأستاذ هيكل شغله الأستاذ علي أمين (ت: 1976م) لفترة قليلة، ثم جاء الأستاذ أحمد بهاء الدين (ت: 1996م) لمدة عامين 1974/1976م، فيكتشف في هذين العامين كنوز الأهرام التي تركها أ. هيكل ورحل.

وهذه حقيقة (من ينسى الأساتذة أحمد بهجت وعبد الوهاب مطاوع وصلاح جلال غيرهم الكثير..؟)، وسيكون أحد أروع هذه الكنوز الرجل الذي سيصحبه في أهم مراحل أ. بهاء المهنية ككاتب عربي كبير أو لنقل المرحلة التي توجت مجده المهني كله.. وهي مرحلة رئاسة تحرير مجلة "العربي"، أشهر وأقوى مجلة شهرية عربية في هذا الوقت.. بطلب كريم من المجلس الوطني للثقافة والفنون الآداب في الكويت.. وذلك خلفا لمؤسسها وأول رئيس تحرير لها العالم والمفكر الكبير دكتور أحمد زكي (ت: 1976م).

ومجرد جلوس الأستاذ بهاء على كرسي كان يجلس من هو مثل د. أحمد زكى؛ كان يعتبر نقلة نوعية كبيرة في مساره المهني.. ولينتقل بذلك نقلة كبيرة من ضيق الصحافة إلى رحاب الفكر والثقافة. وأتصور أن هذه المهمة، هي ما أضافت إلى تاريخه كـ"كاتب عربي" هذا الوزن والثقل الذي ميّزه عن غيره من الصحفيين..

* * *

سيذهب الأستاذ بهاء ويأخذ في صحبته مدير تحرير على مستوى تلك المهمة القومية الكبرى، وقد كانت كذلك بالفعل وقتها.. ولا يجد بالطبع من يفوق الأستاذ فهمي حرفية وصنعة، تخفي وراءها ثقافة واسعة وفكرا عميقا، وبما يفوق كثيرا الحالة الصحفية لأي صحفي قديم ومتمرس.
 

حقق الأستاذ فهمي مجدا وشهرة حظيت باحترام كبير من الأصدقاء والخصوم.. شهرة مستحقة نجمت عن وقوفه على الجانب الصحيح من التاريخ، لأكثر من نصف قرن..واجه خلالها إنسانيته على أروع ما يكون الأمر


وبالفعل تكون السنوات الست التي أمضاها الأستاذ فهمي في الكويت (1976/1982م) إلى جوار الأستاذ بهاء، فترة اطلاع واسع وعميق للفكر الإسلامي بشموله ومجالاته.. "فقها" بالقراءة والفهم.. و"حركة" بالسفر والرحلة.. فطاف العالم الإسلامي مكتشفا وسائلا وباحثا.. يسأل بنفسه ويسمع بنفسه.

وعاد الأستاذ فهمي بعدها إلى وطنه.. ليضطلع بأهم مسؤولية انتدبه لها القدر، في أهم وقت يتطلبه ويحتاجه زمن هذا القدر.. زمن التصاعد السياسي والديني لأعداد عديدة من الشباب الذين ما عادوا يتبعون أحدا ولا عادوا يسمعون لأحد ولا يثقون في أحد.. ليجدوا أمامهم من يقوم خير قيام بوصل وتصويب العلاقة المتوترة، بين الأمة ومصدر قوتها المتين المكين (الإسلام العظيم)..

فكان هو، وكان دوره الكبير الذي أشرنا إليه أولا.. حقق الأستاذ فهمي مجدا وشهرة حظيت باحترام كبير من الأصدقاء والخصوم.. شهرة مستحقة نجمت عن وقوفه على الجانب الصحيح من التاريخ، لأكثر من نصف قرن..واجه خلالها إنسانيته على أروع ما يكون الأمر، وصار قادرا على مواجهة "عزلته" براحة وطمأنينة.. صادقا مع ربه صادقا مع نفسه صادقا مع حضارته وهويته.

 

 


هام : هذا المقال يعبر فقط عن رأي الكاتب ولا يعبر عن رأي فريق التحرير
التعليقات (0)