هشام جعفر يكتب: الدولة الغنيمة.. كيف تعمل دولة العرب المفترسة؟

profile
  • clock 13 سبتمبر 2023, 5:50:48 م
  • تم نسخ عنوان المقال إلى الحافظة
Slide 01

في المقال السابق، استعرضت بالتفصيل المقصود بدولة الافتراس العربي. الدولة المفترسة تبني قواعدها، وتشكل مؤسساتها، وتصوغ قوانينها، وترسم سياساتها بغرض تعزيز المصالح الخاصة لمجموعات الامتياز المهيمنة داخلها، مثل الأسر الحاكمة والسياسيين والجيش والبيروقراطيين، أو المجموعات الخاصة المؤثرة التي تتمتع بسلطات ضغط قوية مثل الشركات الكبرى.

في حالة الافتراس لا تكون عدم المساواة الاقتصادية من الآثار الجانبية للتنمية الاقتصادية، ولكن نتيجة للمصالح الخاصة الجشعة التي تستحوذ على المزيد لصالحها.

حالة الافتراس لا تجعل من النمو الاقتصادي حلا لمشكلة الفقر ونقص الغذاء اللتين يعانيهما معظم العرب. وما لم يشمل النمو الجميع ويعزز مشاركتهم الاقتصادية، فقد تتفاقم أبعاد عدم المساواة، ويزداد الفقراء فقرا وسوء تغذية.

قال تقرير للجنة الأمم المتحدة الاقتصادية والاجتماعية لغربي آسيا (إسكوا) إن ثلث السكان في الدول العربية يقعون تحت خط الفقر، وذلك رغم زيادة متوقعة في النمو الاقتصادي، إذ ستشهد اقتصادات المنطقة العربية نموا بنسبة 4.5% عام 2023، و3.4% عام 2024.

آليات الافتراس

أولا: إزالة الطبقة الوسطى من الائتلاف الحاكم

في الاقتصادات الحديثة، لا تعزز الطبقة المتوسطة الطلب على بضائع وخدمات القطاع الخاص فحسب، بل تصر أيضا على جودة الإدارة والخدمات العامة، مثل التعليم والصحة والبنية الأساسية. الاستثمارات في هذه المجالات لا تحسن فقط من قدرة الاقتصاد على النمو السريع، بل تساعد كذلك على النمو المستدام والشامل للجميع. ومن ثم، فإن فهم وضع الطبقة المتوسطة في العالم العربي مهم للغاية.

لن نخوض كثيرا في تعريفات الطبقة الوسطي التي تمتلئ بها كتب العلوم الاجتماعية، ولكننا نقصد بها الآمنين بدرجة معقولة من الوقوع في براثن الفقر.

 

 

وكانت دراسة للبنك الدولي استخدمت هذا المعيار خلصت إلى تقلص حجم الطبقة المتوسطة بدرجة كبيرة في مصر واليمن منتصف العقد الأول من هذا القرن، وبنهاية العقد هبط نصيب الطبقة المتوسطة إلى 10% فقط. وفي حين لم يطرأ أي تغيير على حجم الطبقة المتوسطة في الأردن في الفترة نفسها، زاد حجمها في كل من تونس وسوريا.

خلال الفترة نفسها، كانت الطبقة المتوسطة في استياء وإحباط متزايدين، حتى في البلدان التي كانت تنمو فيها هذه الطبقة. وتراجعت مستويات السعادة في جميع البلدان التي شملتها الدراسة، وكان هذا التراجع جليا بشكل خاص في بلدان الربيع العربي. ويربط البحث بين انخفاض مستويات السعادة في المنطقة عشية الموجة الأولى من الربيع العربي (2011-2010) وبين التصورات السائدة عن تدني مستويات المعيشة، خاصة جودة الخدمات العامة، وارتفاع معدلات البطالة، وقضايا الإدارة العامة.

الدولة المفترسة تبني قواعدها، وتشكل مؤسساتها، وتصوغ قوانينها، وترسم سياساتها بغرض تعزيز المصالح الخاصة لمجموعات الامتياز المهيمنة داخلها، مثل الأسر الحاكمة والسياسيين والجيش والبيروقراطيين، أو الشركات الكبرى التي تتمتع بسلطات ضغط قوية

لا تتوفر دراسات أحدث -فيما أعلم- عن حجم الطبقة المتوسطة في المنطقة، لكن المؤكد أنها تتقلص باستمرار وتتفاقم معاناتها لأسباب عدة، من أبرزها اتباع كل الأنظمة العربية سياسات السوق، وأضيف إليها جائحة كورونا والحرب الأوكرانية التي فاقمت التضخم وزادت من فاتورة الغذاء في العالم كله.

ومما يزيد الطين بلة تخلي الدول العربية جميعها عن العقود الاجتماعية التي قامت على رعاية الطبقات الاجتماعية الوسطى والفقيرة اجتماعيا واقتصاديا. ففي ظل هيمنة سياسات السوق، تقلصت الخدمات العامة التي كانت تقدمها هذه البلدان لصالح القطاع الخاص الكبير، كما تخلت عن التزامها في العقود الاجتماعية السابقة بتعيين الخريجين في بيروقراطيتها التي سعت دائما لتقليص حجمها وتقليل أعدادها. يجري هذا في الوقت الذي يعجز فيه القطاع الخاص الكبير عن استيعاب قوة العمل في ظل زيادة أعداد الشباب الراغبين فيه.

ثانيا: سياسة فرق تسد

ويقصد بها في المجال الاقتصادي منح بعض الفئات الاجتماعية بعض المميزات، من إعفاءات ضريبية أو إتاحة الأراضي والتمويل من المؤسسات التمويلية، على حساب الفئات الأخرى من المجتمع، بالإضافة إلى سياسات العطاءات والمناقصات الحكومية التي لا تتصف بالشفافية، مما يزيد من حجمهم وسرعة نموهم. يضاف إليها الحماية من المصادرة والتأميم تحت بند حماية الاستثمار الخاص والأجنبي.

 

يكاد يسيطر على الاقتصادات العربية منح هذه المميزات للشركات الكبرى على حساب الصغيرة والمتوسطة، بحجة قدرتها على توليد الوظائف واستيعاب قوة العمل التي تخلت الدولة عن توظيفها مع السياسات النيوليبرالية التي تطبقها. تفيد الإحصاءات بأن الاقتصاد غير الرسمي يحتل وزنا كبيرا في معظم الاقتصادات العربية، فقد تصل مساهمته في الناتج المحلي الإجمالي لبعض البلدان إلى الربع، ورغم هذا فإن ما يتمتع به من إعفاءات ضريبية ومميزات تمويلية وحماية للملكية يكاد يكون محدودا، إلا من رطانات تتحدث عن دعم المشروعات الصغيرة ومتناهية الصغر من دون تغيير حقيقي في أوضاعها.

الدولة المفترسة حالة "من شأنها أن تحدد مجموعة من حقوق الملكية التي تزيد من إيرادات مجموعة السلطة والمتحالفين معها، بغض النظر عن تأثيرها على ثروة المجتمع ككل".

هل هناك علاقة بين تركيز الدول العربية في اقتصادها على الرأسماليات الكبيرة وتراجع الطلب على الديمقراطية بمعناها السياسي والاجتماعي؟ هذا سؤال يستحق المتابعة، لكن المؤكد أن مصالح الرأسمال الكبير مع استقرار تحالف الحكم القائم واستمراره، إلا إذا تم استبعاد بعضها واستبعاده عن هذه المميزات.

هناك ظاهرة، أظنها كانت من نواتج الربيع العربي، وهي أن تحالف الحكم الممتزج بالرأسماليات الكبيرة استطاع أن يمدّ شبكاته عبر الإقليم وألا يقتصر على المستوى الوطني -أي داخل البلدان- فقط. هذه الشبكات تكاد تتواطأ على مفهوم معين للاستقرار يقوم على الإبقاء على الأوضاع كما هي من جهة الديمقراطية السياسية، بالإضافة إلى سياسات عدم المساواة الاقتصادية والاجتماعية. وما جرى من انتفاضات عزز تحالف الحكم القائم الذي تم تهديده وطنيا وإقليميا، بل ودوليا.

أصبحت الدولة العربية -وليس السوق كما يدعي البعض- تلعب دورا في إعادة توزيع الثروة والفرص والدخل لصالح فئات بعينها على حساب أخرى، بما يجعل عدم المساواة صفة لصيقة بالاقتصادات العربية، حسبما أشرت في مقالي السابق. وقد حصلت بعض الشركات الخاصة على عوائد هائلة بفضل شراكاتها المميزة مع أكثر المجموعات تأثيرا في الدولة، بما يمكن معه الحديث عن "الدولة الغنيمة". ويفاقم هذا الأمر أن الحدود الفاصلة بين المال العام والخاص غير واضحة المعالم.

 

يستند توسع سيطرة "الدولة الغنيمة" إلى استيعاب "الشيء العام" داخل سلطة الدولة، ولكن الدولة -مع هذا الوصف- لم تعد كيانا معنويا يسمو فوق الجميع، بل يجري احتلاله بالمصالح الخاصة.

يحتاج أعضاء المجتمع إلى التعاون من أجل مواجهة هذه السياسات، ولكن يمكن للدولة إحباط هذا التعاون عبر فرض سياسات تمييزية لصالح بعض الفئات على حساب الأخرى، وإعادة توزيع الفوائد على أولئك الذين يضمهم ائتلاف الحكم من مؤسسات أمنية أو دينية ونخب ورجال أعمال.

ثالثا: التقدير السياسي

أشرت في المقال السابق إلى أن السياسة تهيمن على الاقتصاد في المنطقة، وهذا يعني استمرار الدول العربية في إعطاء الأولوية لبقاء النظام وإعادة إنتاج الائتلاف الحاكم المكون عادة من الأسر الحاكمة والأجهزة الأمنية والرأسماليين المحسوبين عليها.

ورغم هيمنة السياسة فإنه يغلب عليها فكرة التقدير، أي غياب القواعد الحاكمة والمؤسسات المستقرة والالتزام القانوني والدستوري الموثوق به مسبقا، ناهيك عن الاستبعاد السياسي والاجتماعي لبعض الفئات والمجموعات، حسبما أسلفت في حديثي عن وضع الطبقة الوسطي.

أصبحت الدولة العربية -وليس السوق- تلعب دورا في إعادة توزيع الثروة والفرص والدخل لصالح فئات بعينها على حساب أخرى، بما يجعل عدم المساواة صفة لصيقة بالاقتصادات العربية

يجب أن ندرك أن عملية التنمية الاقتصادية هي في الأساس عملية انتقال مؤسسي تحكمه قواعد، لا الاعتبارات الشخصية. لن تؤدي محاولات تغيير قواعد اللعبة من خلال التقدير السياسي إلا إلى التحريض على البحث عن الريع، لأنه يحقق ثروات طائلة وبسرعة وبلا تعب كبير -كما يظهر في جل الاقتصادات العربية التي تسيطر عليها الصناعات الاستخراجية والعقار، مما يؤدي إلى تبديد أكبر للثروة.

 

من الواضح إذن أن التنمية الاقتصادية لا يمكن أن تحدث إذا كانت الدولة أداة للافتراس العام، أي نقل الموارد من طرف إلى آخر يمارس سلطته التقديرية.

It is easy to overcome difficulties using someone else. Modern slavery in the business world.الدولة المفترسة حالة من شأنها أن تحدد مجموعة من حقوق الملكية التي تزيد من إيرادات مجموعة السلطة والمتحالفين معها، بغض النظر عن تأثيرها على ثروة المجتمع ككل (غيتي)

إن التقدير السياسي بإلغاء امتياز قانوني -على سبيل المثال- هو أنه لا يمكن أن يحدث من دون إنشاء امتياز قانوني آخر في الوقت نفسه. إن التقدير السياسي -بطبيعته- يهدف إلى إفادة طرف على حساب الآخر. إذا أدركت الجهات الفاعلة في المجتمع أن النظام القانوني أصبح أقل حيادية وبني لصالح فئات بعينها، فسوف يتجنبون الدولة بوصفها وسيلة للفصل في النزاعات حول التنازل عن حقوق الملكية، ويستخدمون بشكل متزايد وسائل أخرى للفصل في النزاعات التعاقدية. وهذا ربما يفسر زيادة الطلب المجتمعي على التحكيم القانوني أو العرفي، وقد تتفاقم الجريمة المنظمة لحماية الحقوق والحفاظ على الثروات.

هل يفسر هذا لنا انتشار شركات الأمن الخاصة في المنطقة؟ ربما.

توجهت الدول العربية جميعا نحو الخصخصة، ولكن لكي تحقق الخصخصة نموا اقتصاديا مستداما -حسب دراسات الاقتصاد السياسي- فإنها تتطلب قيودا مؤسسية تكبح النهب العام، أي القضاء على قدرة الدولة على التدخل في (إعادة) تخصيص حقوق الملكية العامة للمنفعة الخاصة. وقد ظهر بعد الرئيس حسني مبارك (1981-2011) أن جلّ عمليات الخصخصة في مصر شابها الفساد والمحسوبية ولم تؤدِ إلى النمو الاقتصادي، بل إلى "رأسمالية المحاسيب"، أي زيادة ثروات شرائح محدودة من رجال الأعمال.

يمكن استخلاص درس سياسي مهم من التجربة الروسية للخصخصة، يتطلب من الدولة التزاما موثوقا بالقيود الملزمة على حرية التصرف السياسي. وبالتالي، فإن القيود المتزايدة على نخب الدولة قد تعزز قدرتها على حماية الملكية. وإذا لم يتم إنشاء مثل هذه الشروط قبل الخصخصة، فإن قدرة الدولة على التمويل وتوفير الشروط المتوافقة مع إنشاء اقتصاد السوق -الذي هو مقصد الخصخصة- ستحبط من خلال المنافسة السياسية للحفاظ على الوضع الراهن، أي حماية العائدات المستمدة من الامتياز السياسي الذي تملكه مجموعات المصالح الخاصة.

ومما يعزز التقدير السياسي توفُّر مصادر مالية خارجية من معونات وقروض للأنظمة. ويفترض أن القدرة على جمع الأموال من مصادر خارجية تفصل صانعي القرار عن تأثيرات سياساتهم المحلية التي تخلق الثروة أو تدمرها، مما يزيد من التقدير السياسي بإطلاق يدهم ويحررهم من القواعد الملزمة.

يمكن أن تؤدي اللامركزية السياسية -أيضا- إلى توسيع حقوق الملكية والحريات الأخرى المرتبطة بها، لأن أصحاب المصلحة على المستوى المحلي لديهم حوافز لتوسيع هذه الحقوق والحريات للحصول على بعض العوائد التي عادة ما يحتكرها المركز، أو تحسين الخدمات العامة. تسيطر البلدان العربية جميعا على المركز حيث تتجمع المصالح فيه، ويتم تركيزها وتعميمها ونشرها في جهات الدولة الأخرى. وعادة ما تغيب مصالح الفئات في الأطراف بما يخلق توترات دائمة فيها. والريف في المغرب، والصعيد في مصر، والمنطقة الشرقية في ليبيا، وولايات السودان خارج العاصمة مجرد أمثلة على ما نقول.

 

 

إذا كانت حركة المجتمعات تنحو نحو التخلص من التقدير السياسي والانتقال من الوضع إلى العقد، فإن التنمية الاقتصادية سوف تتحقق من خلال الشروط المؤسسية التي لا تلغي الامتيازات القانونية بالقوة، لكنها تقوض العوائد للامتيازات القانونية القائمة من خلال عملية السوق الذي بشّرنا بقدرته على تحقيق ذلك. تجري هذه العملية عن طريق التراكم التدريجي لحكم القانون وإضفاء الطابع المؤسسي عليه، الأمر الذي يؤدي بدوره إلى تحقيق عائدات متزايدة عامة من نشاط ريادة الأعمال المنتج. إن الناتج الثانوي لهذه العوائد المتزايدة لا يقتصر فقط على توسيع قدرات الدول على زيادة الإيرادات، وتمويل توفير السلع العامة من قاعدة ثروة أكبر، بل سيكون له تأثير ثانوي يتمثل في زيادة تكلفة النهب الخاص، الذي بدوره يعزز قدرة الدولة على الحكم.


  •  


هام : هذا المقال يعبر فقط عن رأي الكاتب ولا يعبر عن رأي فريق التحرير
التعليقات (0)