احمد ابو الهيجاء يكتب: جنين.. كيف وصلنا إلى هنا؟

profile
  • clock 9 يوليو 2023, 4:53:24 م
  • تم نسخ عنوان المقال إلى الحافظة
Slide 01

لا تشكل العملية العسكرية الواسعة لقوات الاحتلال الإسرائيلي على مخيم جنين سوى حلقة من حلقات الاستهداف المركز للمقاومة المتنامية في الضفة الغربية والتي باتت عنوانا واضحا للأحداث في العامين الأخيرين فيما تقع جنين في قلب دائرة هذا الاستهداف.

عمليا، تشكل الهجمة العسكرية الأخيرة المنعطف الأخطر في حالة استهداف جنين ومخيمها في العامين الأخيرين لغايات واعتبارات إسرائيلية ليس جميعها بالتأكيد أمنيا وعسكريا، فجنين الحالة أكثر عسرا في الهضم بالنسبة للمؤسسة الأمنية والعسكرية الإسرائيلية من جنين العملياتية العسكرية.

لتفسير ذلك يجب العودة إلى أصل الحكاية والتي قد يكون من التكرار فيها ذكر التاريخ القديم والمعركة الشهيرة في مخيم جنين 2002. لكن ما يستوجب ذكره هو الفصل الأخير من الحكاية المرتبط بالعامين الأخيرين، والذي يبدأ التأريخ له بمعركة سيف القدس 2021 والتي خاضتها المقاومة في قطاع غزة ردا على مسيرة الأعلام في القدس وشكّلت علامة فارقة في قدرة المقاومة على تحقيق إنجازات عسكرية ضد الاحتلال ورسم خريطة طريق منطقية للتحرير.

كان واضحا أن نوع وشراسة المواجهات يتطور بالرغم من أنها تتم بالحجارة، إذ انغمس الشباب في التأطير أكثر فأكثر، فأصبحوا ينظمون أنفسهم بمجموعات المراقبة الليلية حتى لا تفوتهم المشاركة في تأجيج المواجهات حتى لو تمت وقت الفجر أو في وقت متأخر بعد منتصف الليل

كانت الضفة الغربية الغائب الوحيد عن الفعل في معركة سيف القدس، ففي الوقت الذي بدا فيه الفعل المقاوم العسكري في قطاع غزة مذهلا، كانت فعاليات مدينة القدس مبدعة في ابتكار أدوات المقاومة الشعبية التي تجلت في أحداث الشيخ جرّاح وباب العامود، بينما تصدَّر فلسطينيو الداخل (1948) المشهد بانتفاضة عارمة شكلت صدمة للمستوى الأمني والسياسي للاحتلال الذي فقد لأيام سيطرته على مدن كاملة في الداخل.

كل ذلك حدث بينما كانت الضفة الغربية غارقة في صمت مطبق حرّكته مسيرات شبابية هنا وهناك دون أن يرتقي الفعل فيها لمستوى القدس والداخل والقطاع والحراك الشعبي للاجئين في مخيمات الشتات في الخارج والشعوب المناصرة للقضية الفلسطينية. من المؤكد أن لذلك أسبابه المرتبطة بالتنسيق الأمني الذي كبّل الضفة الغربية وتداعيات الانقسام السياسي الثقيلة وسياسة الاحتواء الاقتصادي لنتنياهو في التعامل مع الضفة الغربية.

أحدثت معركة سيف القدس صدمة لدى الجيل الجديد من الشبان في الضفة الغربية الذين تتراوح أعمارهم بين (15-22) عاما ممن وجدوا أنفسهم للمرة الأولى أمام إمكانية عملية لخريطة طريق واضحة لتحرير فلسطين، وأن مشروع التحرير ليس يوتوبيا وسردية فلسطينية تردد، وإنما مشروع حقيقي يمكن تحقيقه من خلال المقاومة إذا ما توحد الفلسطينيون وخلفهم أحرار العالم.

 

قد يكون من المبالغة الحديث بأن معركة سيف القدس أسست للتحرير فما هي إلا جولة من جولات الصراع، ولكن أهميتها في نظر الفلسطينيين أنها رسمت خريطة طريق لكيفية التحرير، فمن شاهد انتفاضة فلسطينيي الداخل وتلاحم القدس وصواريخ غزة ومأزق الاحتلال عرف كيف يكون طريق إنهاء هذا الاحتلال الكولونيالي الأكثر تعقيدا من كل الاحتلالات الكولونيالية في التاريخ المعاصر.

بالعودة إلى جنين التي شهدت خلال معركة سيف القدس مظاهرات مناوئة للعدوان التحق بها جيل من الفتية والشبان في مقتبل العمر ممن أصروا أن تسير تلك المسيرات باتجاه معبر الجلمة حيث نقطة التماس المباشرة مع الاحتلال لخوض المواجهات، كانت مشاركة تلك الشبان عفوية، لم يكونوا حينها مؤطرين ولكنهم بالفطرة محبون للمقاومة.

تكررت المسيرات وتطورت المشاركة والمجموعات الشبكية التي تتآلف من خلال مجموعات الـ"واتس أب" لتصبح أكثر قربا من بعضها وكأنها شكلت ما يمكن تسميته تنظيم "الواتس أب". لم تعد الحالة بعد معركة سيف القدس كما قبلها إذ إن المواجهة وضعت أوزارها وانتهت ولكن ما غرسته في نفوس الشباب من تحول وفكر جديد اتقد في عقولهم ووجدانهم ليصبح معها كل اقتحام للاحتلال للمدينة والمخيم والبلدات المجاورة -وكما كثير من نقاط التماس في الضفة- مواجهة شرسة مع مئات الشبان الذين يلقون الحجارة والزجاجات الحارقة ويضعون المتاريس.

كان واضحا أن نوع وشراسة المواجهات يتطور بالرغم من أنها تتم بالحجارة، تصاعد الأمر أكثر إذ انغمس هؤلاء الشبان في التأطير أكثر فأكثر، فأصبحوا ينظمون أنفسهم بمجموعات المراقبة الليلية حتى لا تفوتهم المشاركة في تأجيج المواجهات حتى لو تمت وقت الفجر أو في وقت متأخر بعد منتصف الليل، إذ ما أن يتم الاقتحام وفي أي ساعة ليلية حتى يصل الإنذار لمجموعات "الواتس أب" وبدقائق معدودة تجد مئات الشبان والفتية في الشوارع.

استمرت هذه الحالة لأشهر حتى دخل عنصر جديد لتلك المواجهات، إذ بدأت عمليات إطلاق نار متفرقة تطلق على القوات المقتحمة وأصبحنا نسمع باشتباك مسلح عند الاقتحام، تطورت الاشتباكات المسلحة وأصبحت حالة مرافقة لاقتحام جنين ومخيمها والقضاء، وبات هؤلاء الفتية والشبان يطورون أنفسهم أكثر فأكثر. تشكلت في هذه المرحلة ظاهرة المطلوبين بشكلها الأولي ممن رفضوا تسليم أنفسهم للاحتلال وتحولوا مع الوقت إلى مسلحين مطلوبين وأصبح لهم خطوط اتصال وتمويل مع فصائل المقاومة، ليدخل الفعل المقاوم في جنين مرحلته الحالية.

 

لم تكن العلاقة مع السلطة الفلسطينية وردية، إذ إن هذه المجموعات الشبابية كسرت حالة أمنية استمرت لأكثر من 14 عاما منذ الانقسام السياسي عام 2007 وما ترافق بعد ذلك من التزامات التنسيق الأمني، إضافة إلى أن تنامي هذه المجموعات شكّل تحديا كبيرا لنفوذ وقوة السلطة واختبارا لمستوى سيطرتها على الأرض.

حاولت السلطة مرارا احتواء هذه الظاهرة سواء بالاعتماد على نفوذ قوى محلية في المخيم أو من خلال الاعتقال وفرض الحالة الأمنية إلا أن ذلك لم ينجح وشهدت الفترات الماضية حالة شد وجذب بين الأمن وصلت في بعض الأحيان إلى الاشتباك المسلح بين الطرفين، إلا أن السلطة الفلسطينية أخذت بعد ذلك منحى عزل الظاهرة عن محيطها من حيث سياسة التعامل معها، فما هو داخل المخيم يبقى داخل المخيم فيما يتم تشديد القبضة خارجه.

من المؤكد أن فصائل المقاومة وجدت في مخيم جنين الحاضنة المناسبة لكسر الحالة الأمنية والصمت الذي يلف الضفة الغربية، فاستثمرت فيه بشكل كبير وفتحت مواردها على مقاوميه لتعزيز التسليح وتنظيم المجموعات بعد أن فشلت فصائل المقاومة في بناء أي قاعدة في الضفة الغربية طوال السنوات الماضية نتيجة القبضة الأمنية الشديدة فيها؛ وبالفعل تحول المخيم إلى ظاهرة مقلقة تتنامى، وأصبحت حاضنة للفعل المقاوم في الضفة الغربية وبدأ النموذج في التعميم والانتقال.

بمنطق الفعل المقاوم الذي يتناسب مع الحالة المعقدة في الضفة الغربية لا يبدو نموذج مخيم جنين هو الملائم، حيث إن العمليات الناجحة والمؤلمة للاحتلال تتم من خلال الكمائن التي تنفذها خلايا منظمة صغيرة أو حالات الذئاب المنفردة وغالبيتها من مناطق جغرافية أخرى، وهي أقل من حيث الكلفة البشرية والمادية للمجتمع وللمقاومة وأكثر إيلاما للاحتلال ورعبا للمستوطنين.

لكن الدور الحقيقي الذي لعبته حالة مخيم جنين لا يقاس بمستوى الأذى الذي ألحقته بالاحتلال بقدر ما كان الدور هو كسر حالة الصمت والإخلال بالتوازنات الموجودة في الضفة التي تشكلت بعد الانقسام، وهو ما أدى لاحقا لإطلاق الفعل المقاوم على مصراعيه في الضفة، إذ إن كسر حالة الجمود والقبضة الأمنية التي تشكلت لسنوات عقدة لم تستطع قوى المقاومة التعامل معها إلى أن جاءت هذه الحالة في المخيم وأعادت تعريف الأشياء وفرضت معاني جديدة.

 

لعبت الرواية التاريخية دورا مهما في تشكيل حالة الإلهام للحالة الراهنة في مخيم جنين، فنموذج معركة المخيم 2002 ما زال حاضرا في أذهان الجيل الجديد، وهو مصدر الإلهام الرئيسي الذي يكرر المقاومون بشكل كبير أنهم يسعون لإعادة أمجاد تلك المرحلة، لم يكن كثير من الجيل الجديد المنخرط في المواجهة الراهنة مولودا في تلك المرحلة، لكن عددا منهم أبناء شهداء تلك الحقبة، كما أن آخرين تربوا على قصص البطولة المرتبطة بها، لذلك يمكن فهم جزء من تنظيم الحالة الراهنة وكينونتها على أنه إصرار على تكرار نموذج 2002 في أذهان الجيل الجديد.

يؤكد ذلك على أهمية حماية الرواية الفلسطينية التاريخية لأنها مصدر الإلهام الأساسي لحماية القضية لدى الأجيال المتعاقبة. سعت مرحلة أوسلو بإحدى وظائفها إلى قتل وتشويه النموذج المقاوم في أذهان الفلسطينيين لصالح نموذج رجال الأعمال والمراتب البيروقراطية لتغيير التراتبية المجتمعية وتشكل الأدوار الاجتماعية في الكينونة الفلسطينية.

أسهمت الحالة المتشكلة بجنين في تبدل المرجعيات المجتمعية مرة أخرى، فبتجذر حالة المقاومة ترتفع مكانة وأدوار المقاومين كمرجعية مجتمعية ذات إطار قيادي مؤثر وتضعف هيمنة مجتمع رأس المال ومجتمع البيروقراطيين المرتبط به لذلك فإن مثل هذه الحالة تسهم في إعادة هندسة المجتمع بشكل ينسف تماما كل ما بنته أوسلو خلال 3 عقود ما يعني أن هناك من هو متضرر وهناك من سيدافع عن مصالحه ومكاسبه.

تبرز أيضا مسألة ملهمة أخرى لهذا النموذج المتشكل في جنين، وهي الوحدة الوطنية وتجاوز الانقسام بالرغم من عدم مثالية المشهد في هذا الجانب، إلا أنه يسجل أن مقاتلي فتح وحماس والجهاد الإسلامي داخل المخيم من الجيل الجديد استطاعوا خلال العامين الأخيرين الانصهار في بوتقة عمل مشتركة، ودافعوا عن وجود بعضهم حتى أن عددا من المقاتلين لم تكن لتميزه لأي فصيل ينتمي لأنه كان يعمل مع التنظيمات الثلاثة في آن واحد. تتكرر عبارة نحن في المخيم موحدون بينما لا توجد العقد النفسية التي ورثها الانقسام للأجيال الأكبر في نفوس هذا الجيل بالرغم من محاولات جرهم إليها بطرق مختلفة.

يبقى التساؤل، هل ستقتنص النخبة الوطنية الفرصة للبناء على التجربة الراهنة والتي ما زالت هشة في تكوينها لتجعلها متماسكة تدريجيا فتتشكل رافعة للحالة النضالية والمقاومة باتجاه رؤية مشتركة لإدارة الصراع في المرحلة المقبلة على قاعدة شعبية عريضة قادرة على مواجهة الاستيطان ومشاريع التهويد في الضفة؟ توجد عوامل مشجعة لذلك، وتوجد عوامل أكثر تجذرا تدفع باتجاهات أخرى.

 

 

 


هام : هذا المقال يعبر فقط عن رأي الكاتب ولا يعبر عن رأي فريق التحرير
كلمات دليلية
التعليقات (0)