سامح المحاريق يكتب: أوكرانيا والنار الهادئة في الشرق الأوسط

profile
  • clock 16 يونيو 2023, 12:21:13 م
  • تم نسخ عنوان المقال إلى الحافظة
Slide 01

تتغيب حقائق أولية في زحمة متابعة أخبار الحرب الروسية في أوكرانيا، خاصة مع امتداد الحرب لزمن أطول من المتوقع بكثير، ومن أهم الحقائق البسيطة، هو الزخم السكاني الروسي، الذي يبقى متواضعاً أمام فضاء جغرافي واسع يمثل حدود ومحددات الأمن القومي الروسي، وروسيا في وضعيتها الهجومية لا يمكن أن تتخلى عن تأمين أكثر من حيز حيوي حولها، من البلطيق إلى آسيا الوسطى والمحيط الهادئ، ولتغطية الحاجة إلى المزيد من الجنود في الجبهة الأوكرانية يوافق البرلمان الروسي مؤخراً على توقيع عقود مع مجرمين من نزلاء السجون للانخراط في عمليات الجيش.
الوضع على الجانب الأوكراني مختلف بعض الشيء، فأوكرانيا وإن لم تكن بحجم روسيا سكانياً، فهي ليست بالبلد الصغير، وبتعداد يتجاوز الأربعين مليوناً، يشكل الأوكرانيون تحدياً كبيراً أمام الروس، خاصة أنهم في موقف دفاعي تعبوي، ويملكون كامل التركيز على الجبهة الروسية وحدها، ويحظون بإمداد متواصل من الأمريكيين والأوروبيين، من خلال الحدود الغربية للبلاد المفتوحة على بولندا بصورة كافية.
هل تغيب هذه الوقائع عن الروس، سواء في الكرملين أو القيادة العسكرية؟ ولماذا لم يذهبوا إلى حسم الحرب من خلال مباغتة كبيرة وتركيز على إسقاط كييف وفرض أمر واقع محرج على العالم، ومهين للأمريكيين والأوروبيين في المقابل؟

فرصة عالمية غير مسبوقة للقوى الإقليمية من أجل تحقيق المكتسبات التي يمكن تمريرها وسط ضجيج حرب أوكرانيا وفوضاها

في الأيام الأولى لم يكن لدى روسيا تصورات واضحة حول حدود ردة الفعل الأمريكية. والأمريكيون الذين أخذت سياستهم الخارجية تدخل حقبة من الغموض بعد انسحابهم من أفغانستان، وعدم القدرة على تقديم مواقف حاسمة في العديد من الملفات مثل، إيران ودول الخليج العربية، كانوا موضعاً لاختبار روسيا في هذه المرحلة، لتأخذ الحرب مساراً استنزافياً، وتدخل في العديد من المنعطفات لتشكل صداعاً عالمياً، ويبدو أن جزءاً من استمرار الحرب هو ترحيل للحظة الوصول إلى كلمة النهاية، فالعالم ليس مستعداً لتحمل تكلفة انتصار روسي، ولا يتحمل أيضاً هزيمة روسية، وفي المقابل، فإن روسيا وهي ترى النصر مسألة ميدانية تزيد صعوبة وتعقيداً مع الوقت، فهي تراه إلى جانب ذلك، هدفاً غامضاً أمام رئيس أوكراني تحول إلى رجل مبيعات في المؤتمرات الدولية، فالرجل يقدم رؤيته للهزيمة من جانبه على أساس فناء أوكرانيا، وهذه في جوهرها مشكلة روسية، لأنها تلغي الوظيفة الاستراتيجية لأوكرانيا بوصفها دولة عازلة في الفكر الأمني الروسي، لتضع موسكو في مواجهة مباشرة مع الأوروبيين، الذين سيكونون خائفين وغاضبين ومتوترين في ذلك الوقت. بدأت الحرب وتحولت إلى استنزاف متبادل، الأمريكيون يورطون روسيا، والروس يحرجون أمريكا، ونهاية هذه الحرب لم تعد موضوعاً روسياً، فالرئيس فلاديمير بوتين سيبقى بالعقلية نفسها، ولا توجد دوافع حقيقية تدفعه لتغيير مواقفه بصورة درامية، وفي واشنطن لا خيارات سوى الانتظار، ليسكن البيت الأبيض رجل حكيم أو شجاع مكان الرئيس جو بايدن الذي لا يناسبه وصف سوى الرجل المتعب. رجل حكيم من أجل أن يخرج بحل معقول يجعل الأقاليم ذات الأغلبية الروسية ورقة مستقبلية لاستفتاء مؤجل حول انضمامها لروسيا، مع تمرير مجاملة الواسطة الشجاعة لحليف موثوق أمريكياً، ويمكن استثماره في وقت لاحق، ورجل شجاع يمكن أن يقرر التصعيد لتكون حرباً حقيقيةً يجب أن تنتهي بطرف منتصر وآخر مهزوم، كما تنتهي كل الحروب.
إلى أن يحدث ذلك أمريكياً، لا يتوقع أن تشهد العمليات القتالية جديداً إلا في ظل وجود مستجدات روسية تدفع إلى خروج اضطراري من الحرب، ولا تبدو هذه الظروف الموضوعية مهيأة لإنضاج هذه المستجدات، فلا معارضة داخلية واسعة للحرب على الجبهة تصل إلى تهديد استقرار النظام في موسكو، ولا توجد جبهات مرشحة للاشتعال وبقيمة استراتيجية تتجاوز أوكرانيا. الأوكرانيون بدورهم كأداة ووظيفة، لا يمتلكون خياراً مستقلاً بالخروج من الحرب، ووجودهم طرفاً أصيلاً في أرض المعركة، لا يعني أنهم يشكلون طرفاً سياسياً فيها، ويتضاءل لذلك خيار الانهيار الأوكراني، فالحرب ستتواصل طالما أنه لا توجد رؤية سياسية لإنهائها حتى لو تحولت إلى حرب شوارع فوضوية. وجدت روسيا مدخلاً للاستنزاف في هذه المرحلة، وطالما أن الوضع على الأرض سيبقى غامضاً، فلتكن جميع هوامشه السياسية غامضة هي الأخرى، والحرب تعني المزيد من الإنفاق والتكلفة سيتكبدها الأمريكيون لدعم أوكرانيا وبقائها ميدانياً، أما روسيا فخطوط إمدادها المقابلة تحاوط أوكرانيا، وروسيا أمام واقع التفوق العسكري الجوهري ليست بحاجة إلى وضع أفضل أسلحتها في المواجهة، ليضطر  الأمريكيون الذين يمولون التحصين والتمركز الدفاعي إلى إنفاق المزيد من الطعام إلى التكنولوجيا.
فرصة عالمية غير مسبوقة للقوى الإقليمية من أجل تحقيق المكتسبات التي يمكن تمريرها وسط ضجيج حرب أوكرانيا وفوضاها، وتركيا وإيران والسعودية هي الدول التي يمكنها أن تقتنص هذه الفرصة التي ستستمر إلى أن يأتي الرجل الأمريكي الحكيم أو الشجاع، وفي هذه الظروف فإن سلوكيات هذه الدول في السياسة الخارجية ستبقى غير متوقعة بين الانفتاح والتشدد، لاستغلال انشغال تكتيكي مطول في ظل تغيب الاستراتيجية الواضحة، وما هو تكتيكي بالنسبة لبلدان مثل أمريكا وروسيا، يكتسب مكانة الاستراتيجي لدى الدول الإقليمية، ومسألة وجودية عند الدول التي قررت أن تستسلم للفرجة والمتابعة. معظم الأحداث التي ستتفاعل في المنطقة في هذه الفترة البرزخية من الاستنزاف المتبادل، ستكون مفاجئة قياساً بالأفكار التأسيسية التي قامت عليها استراتيجيات المنطقة في العقود الأخيرة، فهذه الحرب تمثل ناراً هادئةً للشرق الأوسط، وقراءتها يجب أن تكون هادئةً ومنفلتة المخيلة.
كاتب أردني

التعليقات (0)