عبد الحليم قنديل يكتب: افريقيا تخلع فرنسا

profile
  • clock 2 سبتمبر 2023, 4:27:22 م
  • تم نسخ عنوان المقال إلى الحافظة
Slide 01

انقلاب الغابون الأخير هو الثامن من نوعه في غرب افريقيا منذ 2020، وجاء بعد شهر وأيام من انقلاب النيجر، مع اختلاف ظروف البلدين، فالنيجر عدد سكانها كبير نسبيا (27 مليون نسمة)، وعظيمة الفقر والشقاء، على غنى مواردها الطبيعية من اليورانيوم والذهب، بينما الغابون دولة صغيرة سكانيا (2.3 مليون)، ومتوسط دخل الفرد فيها يصل إلى تسعة آلاف دولار سنويا، بسبب امتيازها البترولي كخامس منتج في افريقيا، إضافة لموارد طبيعية أخرى بينها المنغنيز والأخشاب، وما من عدالة ولا مشاركة فيها، رغم نظامها متعدد الأحزاب متوالي الانتخابات، وتحكمها عائلة واحدة منذ 56 سنة.

النخب الافريقية الجديدة، قررت إطلاق النار على البؤس الموروث، الذي يرونه ممثلا في فرنسا بالذات، وهي التي خبروا وقاسوا قهرها ودمويتها واستغلالها

والقاسم المشترك الأعظم بين النيجر والغابون وسواهما على امتداد الساحل والغرب الافريقي، هو الميراث الثقيل للاستعمار الغربي، والتغول الوحشي الفرنسي بالذات، فقد ظلت الغابون ـ وجوارها ـ تحت احتلال برتغالي ففرنسي لمئات السنين، وكانت كغيرها من مراكز قنص ونزح العبيد إلى أمريكا عبر المحيط الأطلنطي، وجرى محو الهويات الثقافية الأصلية لسكانها، ودفعهم للانتساب قسرا إلى فرنسا ثقافة ولغة ودينا، فيما ظل 1% لا غير من السكان على الدين الإسلامي، مع نسب أخرى على دياناتهم الطبيعية الافريقية، ومع الاستقلال الأسمي للغابون مع النيجر عام 1960، حكم ليون إمبا، إلى أن وقع البلد في حجر عائلة بونجو الموالية تماما لفرنسا، فقد صعد عمر بونجو إلى الرئاسة عام 1967، وظل في الحكم إلى أن توفي عام 2009، واتخذ لنفسه اسم عمر، بدلا من ألبرت مع اعتناقه الإسلام عام 1973، لكن ظل على حاله كحاكم «شهريارى» متكبر، يحكم بإرادته المنفردة، ويترأس ـ للمفارقة ـ حزبا سماه «الحزب الديمقراطي»، وعبر حزبه «الملاكي»، انتقل الحكم عائليا لابنه علي بونجو، الذي حكم لمدة 14 سنة، ولم تعقه حوادث إصابته بجلطة دماغية عام 2018، ولا انقلاب عسكري أجهضه عام 2019، وإلى أن جاء أجله السياسي مع الانقلاب الأخير، وذهب مع أعضاء حكومته وعائلته وحزبه إلى العزلة، غداة إعلان فوزه في الانتخابات بفترة رئاسة جديدة، وهو ما اعتبر صدمة إضافية لفرنسا بعد انقلاب النيجر، وما جرى قبله من انقلابات في غينيا ومالي وبوركينا فاسو، وما قد يأتي بعدها من انقلابات، ومن الجيوش ذاتها، التي تدرب فرنسا ضباطها، وتحتفظ في بلدانها بقواعد عسكرية برية وجوية، فلفرنسا قاعدة جوية في الغابون، يعمل فيها 370 جنديا فرنسيا، وفي النيجر وجود فرنسي أكبر بكثير، وفي البلدين مع غيرهما، تحتكر شركات التعدين الفرنسية أغلب الموارد، وإن كان انقلاب النيجر أوقف توريد اليورانيوم إلى مفاعلات فرنسا الذرية الكهربية، فإن شركة التعدين الفرنسية «إيراميت» اختصرت الطريق، وعلقت فور الانقلاب أعمالها في الغابون، التي دخلتها الصين من سنوات كشريك تجارى واستثماري رئيسي، وتشتري من ليبرفيل ـ عاصمة الغابون ـ بترولا قيمته 4 مليارات دولار سنويا، وبما لا يترك للوجود الفرنسي قيمة اقتصادية كبيرة، فوق أن فرنسا التي تنهب الغابون ومعادنها، تسند هناك «حكم دمى»، على حد وصف جان لوك ميلانشون زعيم حزب «فرنسا الأبية» اليساري المعارض، وقد ولد ميلانشون نفسه في مستعمرات فرنسا الافريقية، وتناسل آباؤه وأجداده في الجزائر والمغرب، واعترافه بجرائم فرنسا يحرج خصمه الرئيس الفرنسي ماكرون، الذي جمعته صور احتضان حميمي مع الرئيس الغابوني المخلوع علي بونجو المتزوج من فرنسية، وواصل سيرة أبيه في منح ثروات الغابون كهدايا نفيسة لرؤساء فرنسا المتتابعين، من جاك شيراك إلى ماكرون، فلا تزال فرنسا تنظر لمستعمراتها الافريقية ـ السابقة ـ كبقرات حلوب، وتضيء بيورانيوم النيجر ـ وغيرها ـ مدنها وقراها، وتصنع من معادنها وأحجارها الكريمة «إكسسوارات» بيوت الأزياء، وتصور باريس كأنها عاصمة النور، بينما قد لا تنافسها مدينة عالمية أخرى في نشر الظلام والقبح، فما من مقدرة على إحصاء عدد قتلاها وضحاياها، وهم بالملايين في افريقيا، ولا تعداد صنوف القهر والاستعباد التي مارستها بتلذذ سادي، ولا محو هويات السكان الأصلية وتصويرهم كقرود، علمتهم النطق باللغة الفرنسية، واعتبرت نفسها مكلفة بإدارة حياتهم البائسة، واصطفاء حكامهم من الحواشي الفرنسية المفضلة، وتنصيبهم عبر انقلابات أو بانتخابات، والتبجح بما تسميه حماية الديمقراطيات الناشئة، ودعم أمثال محمد بازوم وعلي بونجو، بدعوى أنهم ديمقراطيون ومنتخبون، بينما الحقيقة الظاهرة للكافة، أن فرنسا تعتبر الانقلابات الافريقية الأخيرة تدميرا لنفوذها المفروض، واطاحة برجالها المختارين، وما من فرصة على ما يبدو لباريس هذه المرة، فلا أحد يريدها هناك، فالنخب الافريقية الجديدة، قررت إطلاق النار على البؤس الموروث، الذي يرونه ممثلا في فرنسا بالذات، وهي التي خبروا وقاسوا قهرها ودمويتها واستغلالها واستعلاءها لمئات السنين، وهم لا يحبون من حكامهم، إلا أن يكرهوا فرنسا، وأن يطردوا شركاتها وقواعدها من بلادهم، وعلى نحو ما فعل حكام النيجر الجدد، الذين ألغوا من جانبهم كل الاتفاقات الأمنية والعسكرية مع باريس، وربما يفعلها حكام الغابون الجدد، فقد كان رد باريس على مطالب قادة النيجر غليظا فجاً منافيا مجافيا لأبسط قواعد العلاقات بين الدول، ولاتفاقات فينيا التي صنعها الغرب نفسه، فعندما قررت حكومة نيامي طرد السفير الفرنسي، واعتبرته شخصا غير مرغوب فيه، كان رد باريس، أنها لن تنفذ القرار، رغم صدوره عن «سلطة أمر واقع» في بلد آخر، يعترف القانون الدولي بحقها المقرر في اتخاذ ما ترى من إجراءات، لا يصح في مواجهتها، أن ترفضها فرنسا، ولا أن تفتي بشرعية أو عدم شرعية سلطة النيجر، وقد سبق لباريس نفسها، أن نفذت بغير تعقيب أوامر انقلابات مالي وبوركينا فاسو بإجلاء قواعدها العسكرية، بل نفذت «الأمم المتحدة» ذاتها أوامر قادة انقلاب مالي، وأجلت قوات حفظ السلام، فالحقوق السيادية معترف بها لكل صور السلطات، ونوع الحكم في أي بلد يقرره شعبه، لكن فرنسا التي تحس بدنو أجل سيطرتها في افريقيا، تتصرف بتعنت وجلافة تتعارض مع كل المواثيق، ولا تريد أن تعترف حقا باستقلال مستعمراتها السابقة، وربما تحلم بإعادة استعمارها وإخضاعها بالقوة العسكرية المباشرة، ومن دون أن تدرك عجزا آلت إليه قوتها، وميل حليفتها وقائدتها أمريكا إلى سلوك آخر، تعترف فيه مؤقتا بسلطات الأمر الواقع، وعلى أمل تغييرها في ما بعد، بانقلابات أو بانتخابات، وتترك واشنطن فرنسا وحيدة في حالتها العصبية الهائجة، وشعورها المفزوع بأن الأرض تميد من تحت أقدامها، بينما أمريكا تريد مرونة في السياسة، قد تفيد في مواجهة النفوذ الصيني المتضخم الزاحف في افريقيا، المتأهب لوراثة الغرب كله في القارة السوداء، وبديناميكية اقتصادية هائلة، ومن دون التدخل في الشؤون الداخلية للدول الأفريقية، وخلف الصين بخطوات، تأتي حليفتها روسيا، التي تعتمد على صادرات وهبات القمح والسلاح وتمدد جماعات «فاغنر»، وتقدم وعدا ضمنيا للحالمين بالتخلص من الداء الفرنسي، بأن تقدم لهم الحماية المطلوبة، وهو ما يفسر جاذبية علم روسيا الطاغي في أوساط المتمردين الأفارقة اليوم، ورفعه في كل مناسبة احتجاج وسخط على الغرب، وعلى فرنسا بالذات.
وقد يقول البعض، إن على فرنسا أن تراجع تاريخها الأسود، وأن تعتذر عن فظائعها بحق شعوب افريقيا بالذات، لكن فرنسا تكابر، وتعتبر أنها هي التي خلقت دول افريقيا «الفرانكوفونية»، تماما كما تدعي أنها خلقت «الجزائر»، لكن التاريخ لا يخضع لمشيئة فرنسا، ولا لعنصريتها الفاقعة، وكما يقول النص القرآني «ويمكرون ويمكر الله»، فإن للتاريخ مكره وسخرياته ومفارقاته، فقد سعت فرنسا إلى «فرنسة» الجزائر وغرب افريقيا، ودار التاريخ دوراته، وزحف الجزائريون بالهجرة إلى فرنسا، وفعلت شعوب افريقية أخرى اضطرارا، وكادت أمنية «فرنسة الجزائر»، تنقلب إلى «جزأرة فرنسا»، وربما «أفرقة فرنسا» في ديارها، وعلى نحو ما تعكسه انتفاضات الضواحي في باريس وغيرها من المدن الفرنسية، وآخرها ما جرى عقب مقتل الشاب نائل ذي الأصول الجزائرية، وكانت النتيجة، اشتعال حرائق غضب، كادت تدمر أمان فرنسا، إن لم يكن اليوم فغدا، إنه انتقام التاريخ الماكر، الذي ترافقه موجات «خلع» تتقيأ فرنسا في عواصم افريقيا الفرانكوفونية، التي لن يكون انقلاب الغابون الأخير نهايتها، فما زال بطن افريقيا منتفخا بالغيظ من فرنسا، التي تعتبر نفسها راعية للحرية، وهي من أمهات القهر والإذلال والاستعباد.
 


هام : هذا المقال يعبر فقط عن رأي الكاتب ولا يعبر عن رأي فريق التحرير
التعليقات (0)