مدى الفاتح يكتب: أوروبا والاستثناء المجري

profile
  • clock 28 مارس 2023, 3:14:25 م
  • تم نسخ عنوان المقال إلى الحافظة
Slide 01

فاجأت الحرب الأوكرانية الجميع، وعلى رأسهم دول الظل الأوروبية، التي وجدت نفسها مجبرة على اتخاذ موقف متضامن مع موقف المؤسسة الأوروبية الرسمية، التي كانت تعتبر أن المعركة هي معركتها، التي يجب أن تقف فيها بكل صرامة مع أوكرانيا، ذلك كان يضع الجميع في مواجهة مع روسيا. من هذه الدول كانت المجر، والمجر ليست فقط دولة حبيسة جغرافياً، ولكنها أيضاً حبيسة ومحدودة القدرة في ما يتعلق باتخاذ القرار، وهي دولة تعيش منذ عقود حالة من التنازع ما بين رغبتها في استعادة الماضي الإمبراطوري، الذي كان يجعلها ضمن أهم القوى في المنطقة، والحاضر المتواضع الذي يجبرها على التمسك بأهداب الاتحاد الأوروبي.
المجر ظلت تحاول أن تنأى بنفسها عن التصعيد المباشر بسبب العلاقة التي تربطها بروسيا، حتى إن رئيس الوزراء فكتور أوربان قال في تصريح، إن هذه الحرب ليس حربه، ذلك قبل أن يشرح لرصفائه الأوروبيين، الذين كانوا مشغولين بالضغط على روسيا بإجراءات على رأسها، المقاطعة الشاملة وتحديد أسعار الطاقة، إن مقاطعة بلاده لروسيا سيفقدها الكثير، وأنه لا بد من استثناء بلاده المعتمدة على موارد الطاقة الروسية، التي كانت تتجه لتوقيع عقد جديد مع «غاز بروم» من هذه الإجراءات.
موقف المجر أثار حفيظة دول المركز، التي كانت تعتبر أن دول الشرق الأوروبية متقاربة مع روسيا بشكل يجعلها أقرب لمعسكر الاستبداد منها لما يسمونه معسكر الديمقراطيات الغربية، في المقابل كانت هذه الدول، وعلى رأسها المجر، التي طالما امتلكت تعريفاً خاصاً بها للديمقراطية، تعترض على هذا التوصيف وهي تعتبر أن من حق كل دولة أن تمتلك مصالح قومية ورؤى وطنية قد لا تكون دوماً متطابقة مع رؤى بروكسل حول القضايا الداخلية والخارجية. منذ وصوله إلى السلطة عبّر أوربان عن اعتراضه على السياسات الأوروبية المتعلقة بموضوع الهجرة، وموضوع حياد الدولة أمام الأديان. بالنسبة لأوربان، فإن المجر بلد مسيحي الهوية، ويجب عليه أن يبقى كذلك من دون «تسييل»، ومن دون أن تفهم علمانية الدولة على أساس أنها تشجيع لازدهار ديانات أخرى. مسألة مسيحية الدولة يمكن ملاحظتها من خلال الارتباطات السياسية للكنيسة، ومن خلال تركيز أوربان على موضوع الدين وحضور ممثلين عن الطوائف المختلفة للاحتفالات والفعاليات المهمة، وهو ما يجعلنا نفهم لماذا كانت المجر رافضة لاستيعاب أعداد غير محدودة من اللاجئين إبان أزمة منتصف العقد الماضي، إذ كان أولئك في غالبهم من المسلمين. من جانب آخر يبدو اليمين الحاكم في المجر على المستوى الاجتماعي أقرب لروسيا منه لقيم أوروبا الجديدة الخاصة بتدعيم المثليين ومجتمعات الميم، حيث لا تبدو المجر، على عكس دول الغرب الأوروبي، مشجعة للمثليين والمتحولين جنسياً وهو ما يجعلها تأتي في مرتبة متأخرة، وفق التصنيفات الأوروبية، حينما يتعلق الأمر بالتسامح. ولا تبدو القيادة المجرية مهتمة بهذه التصنيفات أو مشغولة بتبرير وجهة نظرها، بل على العكس، لا يدخر أوربان جهداً في التعبير عن رفضه لما سماه في تصريح له أدلى به في رومانيا في عام2014 : «الأيديولوجية الليبرالية الغربية».

المجر تعيش منذ عقود حالة من التنازع بين رغبتها في استعادة ماضيها الإمبراطوري، وحاضرها المتواضع الذي يجبرها على التمسك بأهداب الاتحاد الأوروبي

ضمن الطبقة السياسية القومية تتنامى أسئلة حول جدوى البقاء في الاتحاد الأوروبي، إذا ما كان ذلك الوجود يفرض مزيدا من التدخل في السياسة الداخلية والتحكم في السوق والآليات الاقتصادية، إضافة إلى فرض تعسفي للقيم والتصورات غير القابلة للنقاش، حتى إن كانت تصطدم مع الثقافات والقناعات المحلية. في حين يركز داعمو الاتحاد الأوروبي على الفوائد المتحصلة من البقاء ضمن النادي الكبير، يرى كثير من القوميين أن الالتزام بقواعد الاتحاد كانت له ظلال سالبة على الاقتصاد المحلي، على رأسها تغول الشركات متعددة الجنسيات وسيطرتها على السوق، بما همش وأضعف التجار والصناع المحليين. البقاء في الاتحاد الأوروبي كان من نتائجه أيضاً، وفق المعترضين، تضييق الخيارات الاقتصادية وكبح الوصول إلى شراكات استراتيجية مع دول مهمة تحتاج المجر لتعميق التعاون معها كالصين وروسيا وتركيا. ضمن مسألة الاستثناء والخصوصية تظهر أيضاً قضية القوميات المجرية الحدودية، خاصة على الحدود الأوكرانية، كما في محافظة «زكارباتيا» التي تعرف أيضاً باسم «ترانسكارباتيا»، فهؤلاء السكان هم من ناحية الانتماء السياسي أوكرانيون، لكنهم واقعياً مجريو الثقافة، حتى إن منهم من لا يتحدث الأوكرانية، حيث يعيش أغلبهم في مجتمعات هي أشبه بالغيتو المغلق ضمن مدارس ومراكز ثقافية مجرية.
لم تتخل المجر، خاصة في عهد أوربان، عن قوميتها في أوكرانيا وقدمت لهم ولمناطقهم الحدودية دعماً تنموياً بتنسيق مع السلطات الأوكرانية، مع ذلك فإنه لا يمكن القول إن العلاقة بين البلدين تسير على وتيرة واحدة، فقد نشأ تدهور مفاجئ عقب اتهام مسؤول مجري لأوكرانيا بالقيام بانتهاكات ضد الأقلية المجرية، وهي اتهامات ظلت تتكرر وتتناقل عبر وسائل التواصل الاجتماعي.
قضية الأقليات من القضايا المرتبطة بالماضي الامبراطوري، هنا يجب التذكير بما حدث في عام 1920، حينما أجبر الحلفاء الغربيون المجر الحالية، التي كانت تقع ضمن الإمبراطورية الهنغارية النمساوية، على توقيع «معاهدة تريانون»، التي اقتطعت بموجبها مساحات واسعة من أراضيها، بما بدا وكأنه عقاب لها على المشاركة والدخول في الحرب العالمية الأولى. معاهدة تريانون مهمة لفهم جيوسياسية شرق أوروبا، وكذلك لفهم أدبيات القوميين المجريين، وهي تذكر بمعاهدة «سيفر» التي أجبرت السلطنة العثمانية المهزومة على توقيعها، والتي أدت للنتائج ذاتها على الساحة العثمانية من ناحية تقسيم الدولة وتقليص مساحتها وتوزيع سكانها، والأهم من ذلك كله التدخل في صنع قراراتها. الشبه بين المعاهدتين كبير لدرجة أنهما أوجدتا حالة من التقارب بين الدولتين الحديثتين تركيا والمجر، فعلى الرغم من التنافس التاريخي بين الامبراطوريتين الجارتين، إلا أن المهانة التي تعرضت لها المجر من قبل أشقائها الأوروبيين كانت لا تنسى. اليوم يشترك البلدان في نظرتهما المتشككة للدول الغربية مع وجودهم معهم في روابط وأحلاف مشتركة. بين القوميين المجريين ما تزال تنتشر صور وخرائط «المجر الكبرى»، التي تمتد حتى كرواتيا وصربيا وسلوفاكيا ورومانيا، ويتذكر الناس كل عام تلك الذكرى وتداعياتها، التي على رأسها بقاء الملايين من المجريين خارج بلادهم أو ضمن بلاد صارت تعدهم من الأجانب. من حسن حظ الأقلية المجرية الموجودة في أوكرانيا ومناطق أخرى، أن الرئيس أوربان دعم بشدة تجنيسهم ومنحهم جوازات سفر، منحهم ذلك حرية الانتقال، ليس فقط للمجر، وإنما لأي دولة أخرى داخل الاتحاد الأوروبي، وهي فرصة لم يكن أقرانهم الأوكرانيون ليجدوها بسهولة، حيث ما تزال أوكرانيا خارج الاتحاد، وإن استحدِثت مؤخراً بعض تسهيلات الانتقال الطارئة والإنسانية بسبب الحرب الحالية.
اليمين السياسي في المجر يحظى بشعبية تكفل له الاستمرار في السلطة، فيما تجد آراء أوربان الرافضة للمهاجرين، التي وصف في بعضها اللاجئين بـ»الإرهابيين المحتملين» الدعم والمؤازرة من قبيل قطاعات واسعة من السياسيين الأوروبيين، خاصة من ممثلي يمين الوسط في البرلمان الأوروبي.
في الوقت الحالي، وبالنسبة للشركاء الأوروبيين، لا تكمن المشكلة الأكبر في ما يتعلق بالاستثناء المجري في موضوع اللاجئين أو قضايا حقوق الإنسان والصحافة أو الفساد، بقدر ما تكمن في ذلك الاختلاف، الذي لا يمكن السماح به في وجهات النظر حول مواجهة التحدي الروسي.


هام : هذا المقال يعبر فقط عن رأي الكاتب ولا يعبر عن رأي فريق التحرير
التعليقات (0)