نصر الققاص يكتب : محمد نجيب الذي لا يعرفه المصريون ٥

profile
نصر القفاص كاتب وإعلامي
  • clock 8 أبريل 2021, 3:49:22 ص
  • eye 661
  • تم نسخ عنوان المقال إلى الحافظة
Slide 01


يختصر "أول رئيس لمصر" مرحلة الحرب العالمية كثيرا

يذكر أن الانجليز كسبوا المعركة ضد المحور – القوات الإيطالية والالمانية – يوم 4 نوفمبر عام 1942

يرسم "محمد نجيب" بقلمه صورة للمشهد فى هذه المرحلة فيقول: "وقت الحرب عانينا كثيرا من استهزاء الانجليز بنا.. كانوا يصفوننا بأننا حيوانات.. هم كانوا يتوقعون أن يعاملهم المصريون كحلفاء مخلصين لهم, مع أنهم كانوا يعاملوننا كنكرات.. كان جنودهم يغنون فى الشوارع أغان غير مهذبة تمس الملك فاروق, ورغم أننا لم نكن نحترم فاروقا إلا أنه كان ملكنا ورمزا للبلاد.. أى إهانة له هى إهانة لنا.. لم أر فاروق يتعرض للاستهزاء كما حدث أيام الحرب العالمية الثانية.. يبدو أن الانجليز كانوا يعرفون أن السخرية منه, هى سخرية منا جميعا.. لكنهم لم يكتفوا بالسخرية من الملك.. إنما امتدت تصرفاتهم إلى انتهاك الأعراض, والتصرف فى البلد وكأنها كباريه كبير.. رأيت ذلك بنفسي وعشته"!!

هذا المشهد نفسه الذى يدافع عنه "خدم الملكية والاستعمار" جسده بقلمه حامى حمى الديمقراطية بعد الثورة – محمد نجيب – الذى يرفعون قميصه, لقذف الثورة وزعيمها!! يكشف فيه عن السباب العلني للملك من جنود الاحتلال فى الشوارع.. ثم يحدثونك عن "الليبرالية" التى حولت البلاد إلى "كباريه كبير" يحاولون إعادة افتتاحه!!

ينتقل بعد ذلك إلى حادث 4 فبراير عام 1942.

يروى أحداثه "محمد نجيب" بتفاصيل لم يذكرها غيره, رغم أن العشرات تطابقت شهاداتهم حوله وأكدت ذلك وثائق هذه المرحلة.. يهمنا أن نتوقف فى رواية "أول رئيس لمصر" عند قوله: "فى التاسعة مساء ذهب لسامبسون إلى الملك, واقتحم الانجليز القصر دون أى مقاومة من الحرس الملكي – وصفهم لامبسون بأنهم كانوا كالدجاجات المذعورة – وقاد عملية الاقتحام الجنرال ستون قائد القوات البريطانية فى مصر, وطلع الجميع إلى حجرة نوم الملك.. وقالوا له أنت سجين الجيش البريطاني"!!

لم يذكر أحد أن "لامبسون" دخل على الملك فى حجرة نومه.. لم يقل أحد أنه قال للملك أنت سجين الجيش البريطاني.. لكن "محمد نجيب" أراد للصورة أن تكون كذلك.. وأراد تبرئة "مصطفى النحاس" والدفاع عنه عندما انفرد وحده بأن ينسب "للنحاس" قوله: "الحقيقة أن الملك سمح للسفارة البريطانية أن يسلبوه سلطته"!!

يسجل "محمد نجيب" لنفسه بطولة لم يذكرها مؤرخ أو باحث.. لم تتحدث عنها صحيفة أو سياسى.. حين يقول: "كنت الضابط الوحيد الذى كتب استقالته, إحتجاجا على ما حدث".. وقال أن استقالته كان نصها: "حيث أننى لم أستطع أن أحمى مليكي وقت الخطر, فإنني لأخجل من ارتداء البدلة العسكرية والسير بها بين المواطنين.. لذا أقدم استقالتي" وأوضح أنه سحب استقالته نزولا على رغبة زملائه.. كما أوضح ان الملك أعاد له الاستقالة مع ياوره عبد الله النجومي, وأخبره بأن الملك هو الذى منع الحرس من مقاومة الانجليز, لذلك لن يسمح له بالاستقالة.. عاد للجيش وتمت ترقيته إلى رتبة مقدم ثم عين حاكما إقليميا لسيناء!!

الحقيقة أن الرئيس "محمد نجيب" رجل طيب.. فهو الذى كتب القصة.. قدم استقالته للملك وهو رائد.. والطبيعي أن يتقدم باستقالته إلى قيادته العسكرية.. لكنه أراد منها – إذا كانت حدثت – شيئا.. وهو يعترف بأنه حصل عليه.. ترقية ثم تعيينه حاكما لسيناء!! وهذا لا يهم.. لأن المهم هو أنه نسب للملك قيامه بمنع الحرس من مقاومة الانجليز!! يتسق ذلك مع كذبه أن الملك منع حرسه من التصدي لرجال ثورة 23 يوليو.. ويتسق مع ترويج كذبه أن محاولة اغتيال "عبد الناصر" فى المنشية كانت تمثيلية.. وغيرها من الأكاذيب التى تجرى محاولات جعلها حقائق تاريخية.. فمحاولة إعادة إنتاج صورة "الولد الذى حكم مصر" تتوازى مع محاولة إعادة إنتاج صورة "أول رئيس لمصر" أملا فى اغتيال "عبد الناصر" الذى استعصى عليهم حيا وميتا!! 

أحداث هذه المرحلة عبرها "محمد نجيب" فى سطور سريعة, ليذهب إلى الحدث الأخطر والأهم فى تاريخ المنطقة العربية كلها وفى قلبها لمصر.. وهى حرب فلسطين التى أفرد لها فصلا كاملا.. أراد خلاله تقديم نفسه على أنه كان بطل أبطال هذه الحرب.. حاول خلال هذا الفصل الدفاع عن نفسه كبطل.. تمنى زعزعة اليقين بأن الملك كان فاسدا.. لكنه اضطر إلى تجسيد الحقيقة, ليؤكد أنه حين كتب مذكراته فعل ذلك على عجل لإنجاز مهمة!!

يبدأ "محمد نجيب" هذا الفصل المهم ليقول بالنص: "عندما تقع البقرة تكتر سكاكينها.. وعندما وقع الملك فاروق من على عرش مصر.. كثرت السكاكين التى هوت عليه.. وأنا لا أريد أن أزيد فى عدد تلك السكاكين.. كنت أفضل تجاهل الماضي, تاركا لكم التفكير فى الحاضر والمستقبل.. لكن الحاضر يبدأ من الماضي, والمستقبل يبدأ من الحاضر.. لذلك لا مفر من إلقاء نظرة إلى الخلف.. إلى الملك الحزين.. الملك فاروق الأول – والأخير – ملك مصر والسودان سابقا"!!

ضروري أن نشير إلى خطورة الصياغة وهدفها.. فهو فى هذه الفقرة يعتبر الملك "بقرة" وقعت وكثرت سكاكينها.. ذلك يعنى أنه وقع ولم تخلعه ثورة.. ثم ينصح بأهمية ما يراه بأنه الأفضل بتجاهل الماضي, والتركيز على الحاضر والمستقبل.. ثم يستدرك بذكر أهمية الماضي والحاضر ليقول رسالته: "الملك الحزين.. فاروق الأول والأخير.. ملك مصر والسودان سابقا"! وكاتب المذكرات يعلم تمام العلم بأن الملك لم يكن يوما حزينا.. بل كان لاهيا.. عابثا.. ساذجا.. ويعلم تمام العلم أنه مجرد "ولد حكم مصر" كما يعلم أن كذبة "ملك مصر والسودان" لا أساس واقعى لها, ولا أصل تاريخي أيضا.. فهو القائل أن "إبراهيم عبود" حدثه عن ثورة 1919 بقوله: "عرفت بلدكم فيها إيه؟!".. وعبود" أصبح رئيسا فيما بعد للسودان, وكان يتحدث عن بلدين.. وكاتب المذكرات أورد أيضا أن القوات البريطانية طردت القوات المصرية بعد اغتيال السير "لى ستاك" وهو الذى أوضح فى أكثر من موضع أنهم كانوا يعاملونه فى السودان على أنه مصري.. وأنه كان يتمسك بحقوقه باعتبار والده كان من موظفي السودان.. ولكن كل ذلك لا يهم.. فلا مانع من خلط الحقيقة إذا فرضت نفسها بالأكاذيب, حتى يتم اجتزاء الأكاذيب فيما بعد وترويجها وفق منهج وصل إلى مرحلة البكاء على أيام الملكية.. والضغط لإعادة الاعتبار لاسم "محمد نجيب" وهو ما حدث.. ثم ظهرت الإشارة إلى أنه كان قائد الثورة.. أما زعيمها فهو "جمال عبد الناصر"!! أى أن مسألة ضرب ثورة 23 يوليو وقائدها الذى هو زعيمها, مستمرة وفق منهج منذ يوم وفاته.. وما قراءتي معكم لمذكرات "محمد نجيب" سوى محاولة لكشف المنهج.

كتب "محمد نجيب" فى مذكراته: "رغم أن الملك فاروق فى ذلك الوقت لم يتعد الثامنة والعشرين من عمره – وقت حرب فلسطين – إلا أنه انحدر إلى درجة منحطة, ولم يعرف كيف يحافظ على مصالحه – لاحظ مصالحه وليس مصالح الوطن – وراح يبيع الألقاب والمزايا الملكية.. راح يشترى بثمنها الفساد الذى استشرى فى كل مكان بمصر, حتى أصبحت مصر رمزا لكل ما هو خطأ فى الشرق – لاحظ خطأ – ملاك الأراضي يدفعون الرشاوى لموظفي الحكومة للتخلص من دفع الضرائب.. بدلا من استغلال أموالهم فى مشروعات إنتاجية, قاموا بتهريبها للخارج أو اشتروا بها عقارات دون مراعاة الغالبية العظمى من الشعب التى كانت تعانى الحرمان.. والحكومة القائمة غير قادرة على الإصلاح.. إرتفعت معدلات البطالة إلا فى مجال البناء.. وفى الريف كانت الحالة أسوأ"!!

كانت تلك الصورة خلفية لمشهد دخول حرب فلسطين.. فيقول كاتب المذكرات: "كان الملك يستهزئ بالجيش.. كان يولى عليه من يدين له بالطاعة العمياء دون أى اعتبار آخر كالكفاءة أو البراعة العسكرية.. بين هؤلاء كان اللواء إبراهيم عطالله رئيس الأركان الذى كان مرتشيا.. وقد رفع عليه رشاد مهنا سيف التمرد.. وفى هذا الوقت تم اتهام أنور السادات بأنه يعمل جاسوسا لصالح الألمان.. وأنا أعرف والده وكان صديقا وجارا لي فى الخرطوم بحرى.. أعرفه قبل أن يولد ابنه أنور.. وكان أنور يتمتع بروح الدعابة ويميل إلى تقليد الممثلين, وقد قلد أمامي ذات مرة نجيب الريحاني!! قال لي والده: الحقنى ابنى قبضوا عليه.. طمأنته وكتبت مذكرة رفعتها  إلى إبراهيم عطالله قلت فيها.. أنه حتى لو ثبتت تهمه التجسس ضده, فإنه لم يتجسس ضد مصر وإنما ضد عدوتنا بريطانيا لصالح الألمان"!!

جريمة التجسس فى حد ذاتها لا تهم "محمد نجيب" فإذا وقعت لصالح عدو ضد عدو آخر.. فهذا لا يعيب الجاسوس!! هو قال ذلك وتبناه إلى حد إضافته بالنص: "رفض عطالله مذكرتي, فهددت بالاستقالة من منصبي كنائب أحكام إذا تمت محاكمة أنور السادات.. فاكتفوا بطرده من الجيش ليدخل الحرس الحديدي"!!

ما هو الحرس الحديدي كما يراه "محمد نجيب"؟!

يقول: "هو تنظيم كونته السراي, وأشرف على اختيار أعضائه الطبيب بحرى يوسف رشاد ليكون عين السرايا على الضباط الوطنيين" ويكتفى بذلك دون إشارة إلى جرائم هذا الحرس الحديدي وبينها أنه متهم باغتيال "حسن البنا"!!

يحدثنا بعد ذلك "أول رئيس لمصر" عن صدامه مع آخر وزير حربية فى زمن الملكية وهو اللواء "محمد حيدر" الذى حصل على درجة فريق بعد الهزيمة فى حرب فلسطين.. فيقول "محمد نجيب" أنه فوجئ بتعيين "محمد حيدر" خلفا للواء "إبراهيم عطالله" ويذكر بالنص: "كان هذا الاختيار من الملك قمة المهزلة العسكرية, فجيوش العالم تتطور.. وهو يضع على رأس الجيش ضابط بوليس له تاريخ مشرف.. وعندما عرفت لم أ ذهب لتهنئته, وهاجمته فى كل مكان حتى استدعاني وقال لي: علينا جميعا الخضوع لإرادة مولانا"!!

طبعا.. ما يكتبه "محمد نجيب" عن مسألة اللواء أو الفريق "محمد حيدر" لابد وأنه يلفت النظر.. خاصة عندما يقول: "شاء القدر" دون التأكيد على أنها كانت مشيئة الملك وذلك ليس عفوا.. والمذهل أن سبب رفضه للرجل أنه كان ضابط بوليس ولا يليق أن يكون قائدا للجيش.. ونسى "محمد نجيب" أنه حدثنا عن عمله كضابط بوليس فى أقسام "عابدين" وبولاق" و"مصر القديمة"!!.. يتبع


التعليقات (0)