عبده جبير : أمل دنقل رحيل الشاعر إلى الصباح

profile
  • clock 20 مايو 2021, 5:33:57 م
  • eye 917
  • تم نسخ عنوان المقال إلى الحافظة
Slide 01

( اللوحة / 1 / خارجي / نهار وليل )

موت أمل دنقل ، الخبر الفاجع الذي تصدر صفحات الصحف العربية علي امتداد الوطن العربي من المحيط إلي الخليج ، وفي صحف المهجر ،

 تمضي عليه الأيام . الأيام تمضي ليقترب يوم الرحيل من الرقم ( 40 ) الأصدقاء الملتفون حول زوجة أمل دنقل " عبلة الرويني " ما يزالون يتحدثون عن شجاعة استقباله للموت ، عن أيامه الأخيرة . أحدهم يقول أنه لم يمت .

الشعراء العظام لا يموتون . لقد رحل إلي الصباح. يلتقي الأصدقاء لينسقوا فيما بينهم الاحتفال ( هكذا يسميه البعض ) باليوم رقم ( 40 ) فالعادة المصرية ترسخه يوما للذكري .

تقترب الأيام . الصحف والمجلات المصرية تتلقي الخبر من أيدي الأصدقاء، لتعلنه في صفحاتها الثقافية منذ بداية الأسبوع ، الخبر يعلن :

المكان : الأدباء والفنانون المصريون يجتمعون بأتيلييه القاهرة لإحياء ذكري الشاعر الكبير .

( قطع / 1 ـ كان أمل دنقل يقضي أغلب أمسياته علي أحد المقاعد داخل الأتيلييه ، في الصالة الداخلية شتاء ، وفي الحديقة الخلفية صيفا ، غالبا بصحبة زوجته الصحفية عبلة الرويني ـ

 قطع / 2 ـ كان هذا أيام العافية حيث كان أمل يتحرك بخفة ولا يكف عن الحركة ، يفيض حيوية وصحة علي الرغم من عوده النحيل وملامحه التي يبدو التعب عليها ) .

الزمان : تمام التاسعة من مساء يوم الخميس الثلاثين من يونيو 1983 .. )

(اللوحة / 2 / داخلي / مساء )

في اليوم السابق ذهب عبد الرحمن الأبنودي إلي الأتيلييه ليطمئن إلي أن كل الترتيبات في القاعة المعدة للاجتماع قد اتخذت ، عدل من نظام القاعة ، ورتب التفاصيل الصغيرة التي لابد منها ، 

جاء عدد من الشعراء والكتاب والفنانين الشباب حاملين أعداد البوستر ( الذي رسمه الفنان الشاب صلاح عنان لأمل دنقل جامحا بين الخيول العربية )

 كما حملوا البروتريهات التي رسمها بعض الفنانين لأمل ، واختار الأبنودي الأماكن التي علقت فيها فوق جدران القاعة. اطمأن الأبنودي علي كل شيء ،

 اتصل بعبلة الرويني ليطمئنها ، علقت الدعوة علي مدخل الأتيلييه . جاء بعض الكتاب والفنانين. تبادلوا الرأي ثم رحلوا .

(اللوحة / 3 / داخلي / نهار / فلاش باك )

الأسبوع السابق . الدكتور عز الدين إسماعيل ـ رئيس الهيئة العامة للكتاب ـ يحضر إلى مكتبه مبكرا . يدخل عليه الدكتور جابر عصفور في يده مخطوطة ديوان أمل (أوراق الغرفة  8 ) ،

 ثم يدخل الفنان سعد عبد الوهاب ومعه تصميم رائع للديوان ، وتحضيرات الطباعة ( الماكيت ). يرفع الدكتور عز سماعة التليفون ويصدر أوامره للمطبعة بشكل صارم : لابد من طبع الديوان خلال أسبوع .

 أريد نتيجة لائقة بالشاعر . قبل الأربعين بليلة لابد من أن ينتهي الديوان ( بدا الأمر أشبه بالمعجزة ، بالنسبة لمطابع الهيئة) .

د . جابر عصفور وسعد عبد الوهاب ينزلان إلي المطبعة، يعدان نفسهما لسهرة طويلة . العمال يلقون بصفحات البروفة بين يديهما . يبدآن العمل حتى فجر اليوم التالي .

(اللوحة / 4 / داخلي)

عبلة الرويني أمامها القصاصات والمقالات التي كتبت عن أمل ـ بتقدير شاعر كبير ـ منذ وفاته تقلبها فتستاء من أحدها .

 تمسك القلم تحاول الكتابة عن الشاعر الذي قدرته وأعطته ، ماذا يا تري يمكنها أن تقول ؟ وكيف تقوله ؟ . تسطر كلمات أولي تفيض حبا وتقديرا واحتراما . تضع القلم وترفع سماعة التليفون .

 عبد الرحمن الأبنودى علي الجانب الآخر من الخط . يبلغها أن كل شيء قد تم . عطيات الأبنودى تتناول من زوجها سماعة التليفون . تقول لها اننا جميعا مستاءون من ذلك المقال .

عبلة من الجانب الآخر : كل شيء كان كريما وطيبا , ما عدا تلك الكلمة , وتلك الاشاعة عن مصاريف العلاج ، نعم قرأت رد فتحي فرغلي واعتقد انه كان كافيا . لا. لا يجب أن يرد عليه أحد آخر . ربما كان هذا هو هدفه


( اللوحة / 5 / مساء / داخلي )

الأتيليه يفتح أبوابه ، يدخل سليمان فياض حاملا عددا من نسخ  ديوان ( الغرفة رقم 8 ) وقد تم إنجازه في الوقت المناسب ، وبالطريقة اللائقة، يسلمها لعامل الأتيلييه ليوزعها .

 عدد من الشعراء الشباب يتبعونه حاملين أعدادا أخري من البوستر. يضعونه فوق طاولة علي يمين المدخل .

عبد الرحمن الأبنودى وعطيات الأبنودي يدخلان حاملين كاميرا، وشاشة عرض سينمائي محمولة ، وعلبة بها شرائط فيلم لم يتم استكماله عن أمل .. 

ثم يدخل د. عز الدين إسماعيل، د. لويس عوض ، يتبعه د. شكري عياد ، ويوسف ادرس يدخل علي وجهه علامات الإرهاق ، ويتوافد الجميع .

 تمتلئ القاعة حتى لا يعود هناك مكان لقدم. أغلب الحاضرين يقفون بصعوبة . يحملون نسخ الديوان الذي صدر لتوه . تمتلئ الصالة الخارجية ، ثم الحديقة . الجو ساخن والجميع يتصببون عرقا. أجهزة التسجيل تعد فوق طاولة المتحدثين .

المصورون الصحفيون يشعلون الفلاشات يلتقطون صور أمل دنقل من فوق الجدران . يلتقطون صورا للكتاب للحاضرين ثم لجموع المحتشدين . ويبدأ الاجتماع ؟

( اللوحة / 6 / )

د. لويس عوض يتقدم خلف الميكرفون :

ـ سيداتي وسادتي ، نجتمع الليلة ، في حفل هذا الأربعين ، لفقيدنا وفقيد الشعر العربي " أمل دنقل " وإنها لمناسبة أن يلتقي الفنانون والكتاب في الأتيلييه ،

 لأن أمل دنقل كانت له الصفتان : صفة الفنان وصفة الشاعر ، ثم انه كان من الأعضاء المؤسسين لهذا النادي ، لذلك فإن هناك أكثر من سبب يجعلنا نجتمع ونحيي ذكراه ، 

ومعنا مجموعة من النقاد والشعراء ، وسنبدأ الآن بفيلم اسمه : " الكعكة الحجرية " وهو فيلم تسجيلي عن أمل دنقل في أواخر حياته .

( يبتعد لويس عوض لتتقدم مخرجة الفيلم  ) 

عطيات الأبنودي :أبدأ بالاعتذار ، لأن الجزء الذي سأعرضه اليوم أسميه تجاوزا ( فيلم ) لكن هذه المادة صورتها للشاعر أمل دنقل ، بتاريخ 14 مايو 1982،

 علما بأنني أستطيع عمل فيلم عن أمل دنقل ، بل وعن كل جيل الستينيات ، فمنذ فجعنا بوفاة الأديب الشاب يحيي الطاهر عبد الله وبعد أن بحثنا عن أي وثيقة عنه ولم نجد سوي بضع صور متناثرة في الجرائد وعند الأصدقاء ، 

فكرنا في القيام بعملة تسجيل وثائقية لأبناء هذا الجيل ، فكرنا بأن نقوم نحن أبناء جيل الستينيات بكتابة تاريخنا بنفسنا ، كان هذا هو الدافع إذن ، وهذا ما جعلني أقابل أمل دنقل ، 

وأسجل معه مقابلة مدتها ساعة ، ثم سجلت معه في زيارة للمستشفي ، وحديث له مع طبيبه عن المرض ،طبعا لم يكن ممكنا ،

 حسب الإمكانات المتوفرة أن أكمل الفيلم ، لكنني قررت أن أعرض عليكم اليوم 7 دقائق من هذا الفيلم بدون صوت ، لأن عمل الصوت يحتاج لوقت وإمكانيات ، فاغفروا لي هذا التقصير .

( قطع / إظلام )

الصمت يغلف القاعة ، رقاب ممدودة من النوافذ المطلة علي الحديقة تحاول متابعة الفيلم .

علي الشاشة نري اللقطات الأولي لوجه أمل دنقل ، انه يجلس علي فراش المرض ، لم يكن الارهاق الأخير قد ظهر علي ملامحه ، تقترب الكاميرا من ملامح الوجه لتظهر قوة التقاطيع .

 تنتقل الكاميرا الي اليدين . وهما تتحركان في حركة تعبيرية تتابع حركة الأصابع ، نحس بأنهما تشرحان وتفسران موضوعا في غاية التعقيد لا يفصح عنه الصوت المتواري ،

 مرة أخري يظهر الوجه ، تدور الكاميرا في حركة بانورامية ، تتجه إلي النافذة ، ثم تقترب من وجه زوجة الشاعر الجالسة بجواره .

( قطع )

 وجه أمل دنقل في حركة تحتويها الكاميرا من اتجاهات مختلفة ، تدور الكاميرا في الغرفة ، علي عدة وجوه وتتوقف طويلا عند زوجة الشاعر ،

 ثم يبدو الدكتور عبد المحسن طه بدر في حوار مع أمل وعبد الرحمن الأبنودي الذي يتحرك ويضع الوسادة خلف رأس أمل ، ثم نري زوجة الشاعر وهي تناوله العلاج ،

 ثم لقطة بانورامية في أنحاء الغرفة حيث نري عددا من أصدقاء الشاعر بينهم ابنة القاص الراحل يحيي الطاهر عبد الله ، ثم تطل الكاميرا من النافذة ، 

وتعود علي وجه الطبيب وهو يدير حوارا غير مسموع مع الشاعر ، وتنتهي اللقطات وأمل يستند برأسه إلي الوسادة . التعب باد عليه ) .

( اللوحة / 7 )

القاعة تضاء ، يتقدم د. لويس عوض خلف الميكروفون :

بعد أن رأينا هذا الفيلم المؤثر ، فيلم مؤثر لبساطته ، ولأنه يعيد الينا أمل دنقل بشخصه ، بين أسرته الصغيرة ، فأنا أعتقد شخصيا أنكم جميعا تمثلون أسرة أمل دنقل الكبيرة ، 

ولكم نظراؤكم في كل بلد من البلاد العربية الذين سوف يحملون دائما ذكري هذا الشاعر المجيد ، وأنا في اعتقادي أن الشعراء لا يؤبنون ، لأنهم ثابتون علي الزمن ،

 وليست هناك مبالغة كبيرة في شعر الشعراء عندما يتباهون بتحديهم للفناء . فحوراس سبق أن قال بيتا معناه أنه بني بشعره صرحا شامخا كالهرم ، دائما كالنحاس ، 

ونحن جميعا نعرف أن هذا المعني وارد أيضا في المتنبي الذي قال : اذا قلت شعرا أصبح الدهر منشدا .

هذه الفكرة التي يبدو أنها تعرض في إطار شعري ، هي في الواقع ليست مبالغة شعرية ، لأن الشعراء تظل آثارهم بعد الموت .. 

والآن نستمع الي كلمة يقولها الأستاذ الدكتور شكري عياد الناقد الكبير والقصاص الكبير الذي ترك بصماته علي النقد وعلي القصة في الأدب العربي الحديث :

( قطع / مقتطف )

يقف شكري عياد في تأثر بالغ يتجه خلف الميكريفون :

ـ ربما كان اجتماعنا اليوم محاطا بشيء كثير من الأسي لا لفقد هذا الشاعر العظيم في وقت مبكر وكنا ننتظر منه الكثير ، لا لذلك وحسب ، وانما لأنه كان صوتا ناطقا ،

 بل لعله كان أبلغ الأصوات في التعبير عن وجداننا ، منذ تكشفت الأحلام والوعود والصروح الشامخة التي كانت تبني بالكلمات عن خواء ، بل عن كارثة .. مهمة الشعراء عسيرة جدا ، عندما تزيغ الأبصار ،

 عندما تغيم الرؤية لا يوجد الا الشاعر لكي يحاول أن يخلص شعبه من الأزمة ، ولكي يحاول أن يستشرف المستقبل ، وأمل دنقل فعل من هذا الشيء الكثير جدا .

 نحن لم نتجاوز حتي الآن تلك المحنة التي نطق أمل معبرا عنها ، بل أخشي أن نكون الآن ونحن في ذكري أمل أن نكون محاطين في الواقع بذلك الإحساس الغامض الذي لا نستطيع الفكاك منه ،

 وكأننا نري في سقوط أمل دنقل هزيمة أخري . ولكني أريد أن أقول أن الرجل والشاعر عاش شجاعا ومات شجاعا . وهو من أجل أن يري الرؤية الصادقة أسقط الكثير من حجب الفكر بل من حجب الشعر أيضا . 

أريد أن أقول أن أشق شيء في مهمة الشاعر أنه وسط محنة قومية أو محنة إنسانيةأو المحنتين معا كما هي حالنا ، قد يشعر بينه وبين نفسه بنوع من الإستحياء حين يفكر في أان إخوته الذين سقطوا تحت سياط التعذيب

 قد قاموا بعمل جليل لا يستطيع هو أن يجاريه بقول الشعر . هذه هي المحنة التي يمر بها الشاعر . ولكني أقول أن مهمة الشاعر هي ما تمس الحاجة إليه أكثر من أي شيء آخر ..

 أهميته في قدرته علي الرؤيا ، وعلي أن يصوغ رؤيته في كلمات لينير الطريق لمن حوله ، وآمل فعل هذا .. " .

( قطع / تقديم )

ويقف لويس عوض ليقدم الدكتور عز الدين إسماعيل ، رئيس الهيئة العامة للكتاب وعميد كلية آداب عين شمس والناقد الكبير .

( قطع / مقتطف )

عز الدين إسماعيل متجهما علي غير العادة ، يتكلم بحدة غريبة ، يكاد ينفجر وهو يقول : 

 سوف نحتاج دائما لشعر أمل دنقل . نتأمله لأنه يحمل رؤية شاعر مكتمل ، سنعود إليه لأنه يحمل عذاباتنا ، سنعود اليه لأن شعر أمل متفرد منذ أن طرق هذا الباب ، 

هذا التفرد يعود إلي أنه استطاع عقد صلة وثيقة بين مجموعة من العناصر التي يستدرج اليها دون أن ندرك هذا الإستدراج . أمل يحمل إلينا عبق الأرض ،

 يتفاعل مع الأشياء البسيطة الساذجة تفاعلا عجيبا ، يعقد حوارا مثلث الجوانب ، حوار مع الأشياء ، ومع النفس ، ثم حوار مع الكون ،

 المنطلق الشعري عنده يبدأ من خلال الأشياء ، ومن قلب الأشياء ، ثم يتصاعد من هذا إلي حوار مع النفس إزاء الأشياء ، ثم تتم دورة التصاعد إلي أن يصبح الحوار بين الشاعر وبين الكون ، 

هنا نحسه أيضا عميقا للغاية ، لا لشيء إلا لأنه في بساطته يلامس الأشياء البسيطة التي نعرفها ونراها ونلمسها جميعا دون أن تستوقفنا . فهو يضعنا وجها لوجه مع الأشياء وفي قلب الأشياء . 

ويستنبت من الأشياء ما لا نستطيع أن نتصوره لا من خلاله ، ثم يكون حواره مع النفس فإذا بنا في مواجهة عنيفة مع الذات ، في موقف نواجه فيه أنفسنا بالضرورة شئنا أم لم نشأ ، 

هكذا يضطرنا أمل في شعره إلي هذه المواجهة ، وهذه المواجهة لابد أن تتفتح علي كثير من الآلام التي تقبع في قرارة النفس والتي نحاول أن نهرب منها في أغلب الأحيان ، 

ولكن هذه الآلام لن تكون بحجم تلك الآلام الكبري ، الآلام الكونية ، التي يتصاعد اليها شعر أمل عندما يتأمل الكون ، عندما يبلغ ذروة التأمل في هذا الوجود، فيتأمل الكون كله ويري فيه ما لا نري .. "

( قطع / تقديم )

لويس عوض : نستمع الآن إلى كلمة صديق الشاعر الدكتور صبري حافظ ، نلتقي به الآن بعد عودته من أوروبا ليحدثنا عن أمل دنقل .

( قطع / مقتطف )

صبري حافظ : لم أجىء إلي هنا لرثاء أمل دنقل ولا للمشاركة في طقس الأربعين : طقس تعميد الفقدان وتكريس الغياب ، وتحول الشاعر ،الذي أثري حياتنا وتجربتنا،

 إلي ذكري ، فنحن أبناء جيله لم نستطع أن نستوعب فداحة الخسارة برحيله مهما حاول كر الأيام أن يؤكد غيابه عنا ، ولن نطيق أن يتحول وجوده المتفجر بالحيوية والذي كان يهل علي مجالسنا الكئيبة فينفث فيها الحياة والحبور إلي ذكرى وموجدة ، 

بل إننا لا نستطيع أن نفقده لأننا إذا فقدناه سنفقد الكثير من القيم الجميلة التي تجعل لحياتنا قيمة ولمعاناتنا معني . 

ولن نستطيع أن نوطن النفس علي الإعتراف بغيابه لأننا سنجعل حياتنا بذلك أكثر فقرا وكآبة ، ألا يكفينا ما بها من فقر ودمامة ؟

وإنما جئت لأقول لكم ماذا يعني أمل بالنسبة لي ، إلتقيت أمل دنقل قبل عشرين عاما ، في بدايات عام 1962 ، 

وكان الكثيرون من أبناء جيلنا ـ شباب عديدون في العشرين من العمر ـ يترددون علي عدد من التجمعات الأدبية التي كانت تزخر بها القاهرة في ذلك الوقت ، 

وكنت قد ألفت كل الوجوه من كثرة ترددى علي هذه التجمعات ، وذات يوم ظهر أمل دنقل في أحد هذه التجمعات لم يظهر كوجه إضافي للوجوه العديدة التي تزيد أو تنقص كل أسبوع ،

 وإنما ظهر كالإعصار القادم من البحر . كان قادما بالفعل من الإسكندرية ، وقرأ علينا قصيدته " كلمات سبارتاكوس الأخيرة " ومنذ كلماتها الأولي ؛مست الجميع تلك الكهرباء الفريدة النادرة ،

 كهرباء إكتشاف شاعر من جيلنا استطاع أن يصوغ باقتدار وبساطة ومباشرة كل رؤانا المبهمة ، وأحس كل فرد في هذه الجماعة الصغيرة يومها أن أمل يخاطبه ويتكلم بلسانه في وقت واحد .

 كنا جميعا أبناء هذا الجيل الذي واجه مقارع الخوف والصمت ، الجيل الذي كان عليه أن يصارع من أجل ما يبدو أنه حقه الطبيعى ، 

يصارع من أجل لقمة العيش ، من أجل نسمة الهواء التي لوثوها له ، ناهيك عن حقه في التعبير والنشر وتوصيل كلمته الي جماهير شعبه .

قال أمل " لا " وهو يعرف أن من يقول لا لا يرتوي إلا من الدموع ، وارتوي أمل من الدموع ، ولكن كبرياءه وإحساسه القوي بموهبته الشعرية مكناه من أن يحول هذه المعاناة إلي شعر متميز أصيل 

توحدت فيه حياته الرافضة للانصياع لما هو نمطى ونموذجي ، الثائرة علي ما في هذا الواقع من زيف ودمامة ، مع كلماته النادرة الصفاء الواضحة الرؤيا .. انه الشاعر الرائي المنذر المحذر ،

 زرقاء اليمامة التي لا تندب الكارثة بعد وقوعها  ،لأنها حذرت من وقوعها ، ورأت أجنتها وهي تتخلق تحت سمع وبصر آذانها المرهفة ، وتحت وقع بصيرتها الشفافة الرائية ... 

وكلما اتضحت حدة رؤية هذا الشاعر الرائي وتبلورت معالمها كلما ازداد إحساسه بالمأساة .. ومع هذا واصل الصراع ضد هذا الشر المسيطر ،

 فلم يكتب شعره للهدهدة أو للتنويم وإنما للصدمة والإيقاظ منذ قصائده الأولي التي تعلن بلا مواراة أو تدليس أهمية أن نقول " لا " حتي أواخر قصائده التي ترفض الصلح والمساومة وتصرخ :

لا تصالح وإن قلدوك الذهب .

إن المسألة الكبري في كل شعر جيد كما يقول إليوت هي " إلي أي حد أقلق الوعي السائد .. وإلي أي حد تنشأ الصدمة في هذا الشعر عن طبيعة العواطف " وقد أقلق شعر أمل الوعي السائد بحق ،

 وأزعج اللغة السائدة المألوفة ، وبلور صدمته من خلال بنائه الفني المرهف وقدرته النادرة علي تفجير نثر الحياة اليومية بطاقات من الشعر وبمستويات متعددة من المعني ..

 كان أمل ولا يزال بصيص الضوء الذي رد ويرد عن هذا الجيل الذي طالما تلقي أقسي الضربات العبث واللا معني بأشعاره التي قطع فيها شوطا فسيحا في بلورة رؤية صافية متميزة مرة .. "

( قطع / تعليق / وتقديم )

د. لويس عوض : كان من رأيي دائما أن نستمع إلي رأي الشباب ، أن نستمع إلي الصوت الشاب ، فالدكتور صبري حافظ يمثل جيل أمل دنقل ، وقد وضع أيدينا علي جانب من شعر وصوت أمل ، بلوره في فكرة الرفض ،

 وهو بهذا استطاع أن يحول ما يبدو في شعر أمل دنقل من تشاؤم الي موقف إيجابي من الحياة ، وجيل أمل دنقل مليء بالشجعان مليء بالرافضين ،

 والآن نستمع إلي الشاعر الكبير فاروق شوشة الذي تميز بحساسيته الفريدة ، وبقدرته علي التعبير الغنائي الذي لازمه ناثرا وشاعرا .

( قطع / مقتطف )

صوت الشاعر " فاروق شوشة "  الرخيم تعتليه مسحة مفاجئة من الغضب :

كانت رماحك الطويلة المدببة

تتركني علي مسافة منك

فلا أعاين الذي حويت من جمال

وكان وخزك العنيف حين تستهل صولتك

محتكما بزهوة النزال والمغالبة

يتركني منك علي انتظار

للحظة يعود فيها صفوك المسكون بالرمال

ينكشف الوجه الغضوب عن فجاءة الفرح

والجسد النحيل بالوداد يختلج

يموج في الضلوع صفوك الوريف

في زمن يعلن عن حاجته لكبرياء

ينزاح صوتك الجسور واخزا وداميا

محذرا من هجمة الوباء 

اذ يصبح الأعداء أصدقاء

ومن غد يطبق فوقنا ويحجب السماء

يموج في فراغه البلاء

ينداح صوتك الجسور واخزا وداميا 

يطلق في كل اتجاه

رصاصة خبيئة

في قصائد الهجاء

لعصرنا المفروش بالوحول والأغلال 

للقابعين في فراغ الجب كالنيام

والعاجزين عن بلوغ قامتك

لانهم أقزام 


واخترت ان يكون حيث ينبغي لصوتك البليغ أن يكون .

( قطع / تعقيب / وتقديم )

لويس عوض : فاروق شوشة قدم لنا ما يمكن ان نسميه أدب النبراس ، فهو وجيله ينظرون الي أمل دنقل نظرتهم الي نبراس يقودهم في الظلام ،

 حتي لا يخطئوا طريقهم إلي الحقيقة ، إلي الحق وإلي الجمال ، ( قطع / كان صلاح جاهين قد جاء ولكنه لم يستطع البقاء ، فكان عليه أن يذهب الي الاهرام ليصحح قصيدته عن أمل ) ـ (يعتذر الأبنودي نيابة عنه ) .

لويس عوض : معنا الآن شاعر يمثل القمة في الأدب الشعبي اتخذ من الفلكلور المصري أساسا له هو عبد الرحمن الأبنودى ؛ فلنستمع إليه .

الأبنودى : أنا في موقف صعب ، وحديثي عن أمل حديث صعب ، وقدرتي علي الكلام عن أمل قدرة قليلة ، فقد عذبني أمل صبيا ، وعذبني شابا ، وها هو يعذبني كهلا .

عذبني أمل صبيا لأننا التقينا في مطلع الحياة ، وكنا شاعرين نكتب شعرا يكتب لأول مرة في منطقتنا القبلية ، الضيقة التي لا تقدّر الشعر ، واذا قدرته فلا تفهمه ، اإلا علي أنه النظم ، وتفهم أغراضه المحددة .

ومن هنا كان احتياجي لأمل في ذلك الوقت وكان احتياج أمل لي احتياجا ضروريا ، فكنا لا نفترق ليلا ولا نهارا وكان أمل يعذبني لأن أمل كان شجاعا ، 

كان لا يستطيع أن  يعيش الحياة إلا علي أنها مغامرة دائمة ، وكنت لا أستطيع أن أوقف جموحه ، وكنت أعيش معه هذه التجارب ، لاهثا راكضا ، كان أبي شيخا جليلا ، 

وكان علي قيد الحياة ، وكان أي سلوك حر مني ، بقدر ما هو ممارسة للصدق ، هو إساءة للشيخ ، وكان أمل ينال مني لأنني أبحث عن احترام سهل ، احترام جاهز ، احترام كاذب لا تتوفر فيه عناصر الإحترام الصادق .

وفي الشباب جئنا الي القاهرة ، وعدنا بعد أن فشلنا في الجامعة ، عدنا لنتوظف وأشقينا أهلنا بسلوكنا . وفي ذلك الوقت كانت المعركة الشعرية دائرة بيني وبين أمل دنقل ،

 وكنا نفتقد وجود ثالث لنا في ذلك المكان الذي نشأنا فيه ليشاركنا هذا الطريق الذي لا نعرف هل هو طريق صحيح أو انه غير صحيح ،

 وكما فشلنا كطلاب فشلنا كموظفين ، فشلنا في كل شىء ، ولكننا نجحنا كصديقين آمنا بالطريق الذي اختاراه .

في ذلك الوقت ظهر أمامنا يحيي الطاهر عبد الله ، جاءنا من الأقصر ليشاركنا الحياة في قنا ، ويشاركنا الصداقة والكتابة ، وكان يحيي أيضا جامحا وثائرا وعنيفا ،

 وهذا اضطرني مرة أخري لأن أصبح الأعقل ، والأحكم ، وهذا دفع بأمل مرة أاخري إلي فضح هذا الدور الذي ألعبه .

في القاهرة تباعدت بنا السبل ، فأمل يري الحقيقة في خط قصير ، وبشكل سريع ، وأنا كان لي أسلوبي مع الحياة ومع الشعر ومع نفسي ، وباعدت بنا الأيام بسبب هذا الاختلاف .

قوة أمل وجموحه من ناحيته ، ومحاولة الهدوء والعمل في صبر من ناحيتي .

وحين ذهب أمل إلي المستشفي ما كان لي أن أتأخر عن أن أكون إلي جواره وإلي جوار زوجته وأصدقائه وإخوته ، قضينا الشهور ، ثم الأسابيع ثم الأيام ثم اللحظات حتي رحل أمل ، 

ومن عجيب الأمر أننا كنا نتوقع موت أمل ، ونعلم أنه سوف يموت لا محالة ، ولكن حين رحل بعث أمل من جديد شيئا مفزعا ، شيئا قويا يضيق الحياة ويقلقني حتي في النوم ، 

وبالرغم من إحساسي بالإمتلاء بجسد أمل دنقل ، وروح أمل دنقل . بحياتي الطويلة مع أمل ، بشعر أمل ، أجدني عاجزا تماما عن أن أخط كلمة ،

 فكلما حاولت الاقتراب منه ظهر أمامي بهذه الضحكة العالية ، التي تفزعني ، فاضحا محاولتي لإثبات انني أحبه أو لا أحبه ،

 وهو كان من هذا الجانب قاسيا قسوة النورانيين  ؛وهكذا أنا أعتذر ولم أكتب قصيدة بعد عن أمل دنقل .

( قطع / تعقيب / وتقديم )

لويس عوض : .. فليسمح لي الأستاذ عبد الرحمن الأبنودى أن أختلف معه قليلا فهو في غمرة حزنه علي صديق صباه وشبابه وكهولته قد عبر عن حزن المصابين ، 

لكن لا أجد أن في استخلاصه ما يبرره عندما تحدث عن فشله وفشل أمل دنقل وفشل يحيي الطاهر عبدالله ، فشلهم أن يندرجوا في تيار الحياة ، 

بالعكس أنا أعتقد أنهم قد نجحوا نجاحا باهرا بالرغم مما يبدو للغافلين .. والآن اسمحوا لي أن اقدم الدكتورة رضوي عاشور لتقول كلمتها .

( قطع / مقتطف )

رضوي عاشور : قبل عامين مات يحيي الطاهر عبد الله ، وقبل أيام مات أمل ، وهكذا فان الموت راح يطالب بنصيبه فينا ، نحن أبناء هذا الجيل وبناته ، 

الذين بدأنا العمر بالبكاء بين يدي الوطن .. ولكن جيلنا الذي يخفي الجرح تحت القميص يتقن المكابرة ، ويتقن العناد ، وكأن لا جرح هناك . عنيدون نحن ، 

نبني كما يفعل البناة في كل جيل ، ونبني ما نبنيه قلعة تذود عنا، وتشهد من بعدنا لنا وعلينا ، نبني كما يليق بمصريين حرفتهم البناء منذ الأزل ،

 ليس كل بناة الجيل سواسية ، فمن البناة بان ، ومنهم السيد البناء ، ومن القسوة أن يصادف الموت السيد البناء أمل .. ونحن أيضا الذين نتقن العناد والمكابرة سنواصل البناء حتي نذهب كما ذهب ، 

لا أقول أن الأيام لن تجود بشعراء مثل أمل ، بشعراء مثله ، فالأيام رغم كل شيء تجود أحيانا ، نعرف أن قلعتنا سوف تبقي ناقصة لكن حجارتها تشهد علي حلول صاحبها العبقري الذي رحل قبل الأوان .

( قطع / تعقيب )

لويس عوض : أعترف أني وجدت وحدة في الشعور بين الشباب ، هذا الشعور الذي إتحدت فيه رضوي عاشور مع صبري حافظ مع فاروق شوشة هو شعور جيل الغضب .

( قطع / صوت أمل دنقل الرخيم

النافذ / القاعة يجللها صمت 

عميق / الكل ينصت لصوته)

الطيور

الطيور مشردة في السموات 

ليس لها أن تحط علي الأرض ،

ليس لها غير أن تتقاذفها فلوات الرياح

ربما تنزل ..

كي تستريح دقائق..

فوق النخيل ـ النجيل ـ التماثيل ـ

أعمدة الكهرباء ـ

حواف الشبابيك والمشربيات 

والأسطح الخرسانية

( اهدأ . ليلتقط القلب تنهيدة ،

والفم العذب تغريده،

والقط الرزق  .. )

سرعان ما تتفزع ..

من نقلة الرجل ،

من نبلة الطفل ،

من ميلة الظل عبر الحوائط ،

من حصوات الصباح


الطيور معلقة في السموات

ما بين أنسجة العنكبوت الفضائي : للريح

مرشوقة في امتداد السهام المضيئة

للشمس

( رفرف ..

فليس أمامك ـ

والبشر المستبيحون والمستباحون : صاحون ـ

ليس أمامك غير الفرار..

الفرار الذي يتجدد .. كل صباح

خارجي / شوارع القاهرة /

(اللوحة الأخيرة / صباحا / خرج الناس ليقرءوا ، بدلا من نكتة الصباح  المعتادة في الأهرام قصيدة جديدة لصلاح جاهين بعد توقف طويل ) ؛ هي هنا :

الموتي

في صفحة الموتي

بيكلموني كل يوم الصبح

بصورهم الباهتة

بعيونهم الثابتة

بيسألوني كلهم امتي

ح تنطبع صورتك كمان

اننا ..

هنا زينا في صفحة الموتي !


حبايبنا يا غاليين

محناش ح نتأخر

الدور ح ييجي والمصير محتوم

ياللي صورتها بطرحة الزفة

ده حكم من قبل الوجود محكوم

يا اتنين عجايز حاج ، ومقدس

صورتين بلاسة والجبين مهموم

يا مغترب

يا صورة طالعة من جواز سفر

يا رسم علي وش التابوت مرسوم

في حفاير الفيوم ..


جبانة م الزمن العتيق

وحفاير الفيوم

مشهورة بالصناديق

وعليها بالألوان صور مخاليق

كاهن . مراكبي . ست بيت . تاجر

بنية حلوة . عسكري . شاعر ..

صور بشر أيامهم انحسرت

مداينهم اندثرت

توابيتهم انكسرت ..

مافضلش منها غير وشوش

بيبصوا نفس البصة

و بيحكوا نفس القصة 

مستغرقين في الموت بلا غصة

وفي الخلود رايحين

زي اللي في الجرنال

في صفحة الموتي

قلت الشبه من أين يتأتي !

قالوا علشان الكل مصريين

الكل مصريين

الكل نفس الهوية

نعي المطارنة جنب نعي الشيوخ

طالبين سوا الرحمة الالهية

طالعين سوا أمجاد سماوية

في وحدة أبدية

ما تعرف الطايفة المسيحية

م الاسلامية ..

تشهد صورهم جنب بعضيهم

في الأعمدة السودة البكائية

بأن دي .. هيا ديا .


باحكي عن الموتي وملك الموت

يحصد أمم ويجري في الملكوت

يقعوا كندف التلج غير مسموعين

أو كالحبال يقعوا بارعبها صوت

باحكي عن الموتي في شتي العصور

وباقول عليهم الف رحمة ونور

مش باحكي أبدا عن أمل دنقل

لانه عايش رغم سكني القبور

وقالوا في الامثال اللي خلف ماماتش

وعن أمل يتقال اللي ألف ماماتشي

وسلام علي اللي في

 صفحة الموتي

وسلام علي اللي في صفحة الأحياء .

التعليقات (0)