عمرو حمزاوي يكتب: بل الأمر من صنع أيادي العرب

profile
عمرو حمزاوي أستاذ السياسة العامة بالجامعة الأمريكية
  • clock 10 مايو 2022, 4:57:02 ص
  • تم نسخ عنوان المقال إلى الحافظة
Slide 01

تشي النقاشات العربية الراهنة حول التغيرات المجتمعية والسياسية في بلادنا بمركزية سردية الخصوصية العربية وتعدد السياقات التي توظف بها النخب الحاكمة والمجموعات النافذة مقولات تفرد المجتمعات العربية لكي تبرر غياب التداول السلمي للسلطة وتراجع حكم القانون والإخفاق الديمقراطي المستمر.
على صعيد أول، تمثل الخصوصية العربية بل وخصوصية كل مجتمع عربي السهم الجاهز دوما للرمي الذي تواجه به النخب الحاكمة الاهتمام المحدود للخارج الأمريكي والأوروبي بأوضاع الحريات وحقوق الإنسان بحيث يوصم الغرب بالاستعلاء وبعدم فهم حقائق الواقع العربي. يوظف حديث الخصوصية من قبل النخب الحاكمة، ثانيا، في محاولة للتحكم الأحادي في إيقاع التغيير إزاء مطالبة بعض القوى الاجتماعية والسياسية في بلاد العرب بإصلاحات شاملة. هنا تدعي النخب اختلاف كل حالة عربية عن الأخرى بمنطق ما يصلح في تونس قد لا يصلح لمصر وما يجري في العراق قد يدمر السعودية، وتسفه من مطالب الإصلاح الشامل التي تصورها كمطالب يرفعها مثاليون وحالمون لا يدركون ما آلت إليه الأوضاع بعد عقد من الانتفاضات الشعبية التي بدأت في 2011. ثالثا، تستخدم بعض القوى الاجتماعية والسياسية، تحديدا الحركات الإسلاموية، يافطتي الخصوصية والأصالة لإضفاء هالة من القداسة واحتكار الحقيقة المطلقة على رؤاها هي حول الدولة والمجتمع واستبعاد تصورات الأحزاب والحركات العلمانية بادعاء غربتها وعدم ملاءمتها للواقع العربي.
والمعضلة الماثلة أمامنا هنا هي إطلاقية حديث الخصوصية والنتائج المجتمعية والسياسية شديدة المحافظة المترتبة عليه. فهناك، من جهة، في معرض تناول قضية النموذج الأمثل للتحول الديمقراطي الدفع بعدم عالمية الخبرة الغربية وما أفرزته من صياغة ليبرالية لعلاقة الدولة والمجتمع والفرد المواطن. تشير المقولات المتواترة في النقاشات العربية إما إلى خصوصية الغرب في القرنين التاسع عشر والعشرين بحكم التوسع الاستعماري والثورة الصناعية أو إلى انتفاء التحول الديمقراطي للغرب ككتلة واحدة أو إلى أوجه القصور المعاصرة في ديمقراطيات العالم المتقدم من شاكلة الفردية والمادية وتهميش الدين وهيمنة أصحاب الأموال والتكنوقراط والتي تحد في نهاية المطاف من مصداقية الديمقراطية الغربية داخل وخارج مواطنها.
وواقع الأمر أن فساد استدعاء مقل هذه المقولات لا يرتبط بالأساس بعدم دقة بعض جزئياتها، وإنما بتجاهلها المشترك العالمي في الخبرات التاريخية المتنوعة ومعايير التقييم الموضوعي للأخيرة فضلاً عن تناسيها مغزى ظرف العولمة. لا يمكن إدراك سعي البشرية الدؤوب نحو المزيد من الحرية والمساواة والعدالة واحترام حقوق الإنسان إلا باعتباره قيمة عامة تعارفنا وتوافقنا عليها جميعاً بعد تجارب مريرة في شتى بقاع الأرض. هنا تبدو عبقرية التجربة الغربية الحديثة بشقيها الديمقراطية الليبرالية واقتصاد السوق الرأسمالي (تحديدا اقتصاد السوق ذا البعد الاجتماعي الذي يطبق في الكثير من الخبرات الأوروبية المعاصرة) والتي أنجزت أكثر نماذج البشرية رقياً وقرباً من الحرية والمساواة والعدالة على نحو يجعل من التساؤل حول إمكانيات استلهامها الشامل أو الجزئي خارج أوروبا وأمريكا الشمالية أمراً مشروعاً بل وشديد المنطقية.

لا يمكن إدراك سعي البشرية الدؤوب نحو المزيد من الحرية والمساواة والعدالة واحترام حقوق الإنسان إلا باعتباره قيمة عامة تعارفنا وتوافقنا عليها جميعاً بعد تجارب مريرة في شتى بقاع الأرض

وحين يضاف إلى هذه الحقيقة زمانية العولمة، ليس بالمعنى القدري الرائج في نقاشاتنا العربية المندرج في سياق رمزية تذكر بطوفان نوح، وإنما على أنها تعني تسارع معدلات التواصل والتفاعل والحراك بين اقتصاديات وسياسات وثقافات ومواطني أقاليم العالم المختلفة يصير واضحا أن هناك نزعة طاغية نحو التوحد الكوني تتقارب معها تدريجيا توقعات ورؤى إنسان القرن الحادي والعشرين للمستقبل ومعاييره في الحكم على الأمور بصورة تتخطى حدود الدول القومية والإطارات الحضارية.
تتهاوى، إذا، المنطلقات الفكرية والسياسية والاجتماعية لخطابات الخصوصية العربية ومقولات تفرد المجتمعات العربية ويصير في إنكار النخب الحاكمة لحق العرب في الديمقراطية والتداول السلمي للسلطة وحكم القانون وكذلك في نزوعها نحو تصوير الديمقراطية كأمر غير ملائم للواقع العربي الدليل الأكبر على رغبة الحكام في احتكار السلطة وفرض الطاعة على المواطنين وتهديدهم بالقمع والعقاب حال عدم الامتثال.
من ذات النافذة، الداخل والخارج، يطل علينا أيضا وهم مسؤولية الغرب عن الأزمات السياسية والاجتماعية المتتالية للمجتمعات العربية.
يتوارى في العديد من الأحيان التعامل النقدي مع مشكلات السياسة والمجتمع في عالمنا خلف ستار سميك تنسجه أحاديث متواترة عن سياسات القوى الكبرى وانعكاسات صراعاتها منذ القرن التاسع عشر على قضايا المنطقة التي تبدو وكأنها ساحة مفرغة من الفاعلين المحليين وقابلة فقط لفعل أطراف خارجية معادية لا ترغب في تقدم العرب وتحيك لهم المؤامرات بانتظام. لا أشكك في سلامة بعض الاستشهادات التاريخية الموظفة هنا، وهي ترتبط عادة بحقبة الاستعمار الأوروبي (معاهدة سايكس ـ بيكو) مروراً بتأسيس إسرائيل والهيمنة الأمريكية منذ تسعينيات القرن العشرين وانتهاء بالصراعات المعاصرة للقوى الكبرى على أرض العرب.
غير أن سلامة تلك الاستشهادات لا تنفي الخلل التاريخي والموضوعي الكامل للنظريات المتداولة بشأن التآمر الغربي على العرب قبيل وأثناء عقد الانتفاضات الشعبية 2011 ـ 2021، وهي تلك النظريات التي روجت لها النخب الحاكمة الخائفة من التغيير. وفي التحليل الأخير، يظل الهدف الأبرز لتحميل الغرب مسؤولية أزماتنا السياسية والاجتماعية هو إعفاء الذات الجمعية العربية من مسؤوليتها هي الفعلية عن غياب الديمقراطية وعن تدني معدلات النمو الاقتصادي والاجتماعي وعن تراجعنا الكارثي في مجالات المعرفة العلمية والتقدم التكنولوجي.
من ذات النافذة، الداخل والخارج، تطل أيضا مقولات الخصوصية الدينية والثقافية التي تطلقها الحركات الإسلاموية في معرض سعيها لادعاء احتكار الحقيقة المطلقة (ولسان حالهم نحن العالمون أكثر من غيرنا بأحوال مجتمعاتنا وبلداننا) ومحاربتها للأحزاب والحركات العلمانية بسلاح نزع المصداقية. غير أن مقولات الخصوصية الدينية والثقافية التي ترسم صورة وهمية للعرب كراغبين في الحكم الديني وصورة غير موضوعية للعلمانيين العرب كدعاة تغريب واغتراب، مثل هذه المقولات لا ترتكز إلى شواهد موضوعية وتنبني على رؤية معكوسة لترابطات الدين والثقافة والمجتمع تجعل من الأول والثانية مهيمنين على الأخير في حين أن وقائع التاريخ لا تعرف إلا متغيرات دينية وثقافية تتغير معانيها ووظائفها بتبدل أحوال المجتمع وتطلعات المواطنين.
إزاء سردية الخصوصية العربية ومقولات التفرد العربي التي توظفها النخب الحاكمة غير الراغبة في التداول السلمي للسلطة أو الحركات الدينية التي تريد أن تفرض رؤاها كحقائق مطلقة، تصبح مهمة القوى الديمقراطية والتحديثية صياغة فهم للسياسة والمجتمع والتغيير المنشود يتخطى الخصوصيات ويكتشف مساحات الفعل العالمي ويدرك منطق التطور التاريخي والمتراكم من قيم إنسانية مشتركة تدفعنا جميعا إلى طلب الحق والحرية والعدل والتقدم ورفض الحقائق المطلقة. ولا سبيل لذلك سوى بالتداول السلمي للسلطة وحكم القانون وإن طال انتظار مجتمعاتنا للتأسيس الناجح للأمرين. ولا ينفصل ذلك عن إنجاز فك شامل للارتباط بين الدين وبين شؤون الحكم وإن طال انتظار العرب لصعود قوى علمانية لا تساوم على الحرية والديمقراطية.

كاتب من مصر

 


 


هام : هذا المقال يعبر فقط عن رأي الكاتب ولا يعبر عن رأي فريق التحرير
التعليقات (0)